الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما نتحدث عن العلوم الطبيعية أو الرياضية أو الاقتصادية فإن الجودة تكون على شكل معادلة بسيطة (1+1=2)، لأن النجاح يتم قياسه بالأرقام؛ دون أي شك في صحة معادلة قياس الجودة.
أما في عالم التشريع فإن المسألة فلسفية أكثر منها حسابية؛ لأن التشريع ينبع من المنطلقات الدستورية أو العقائدية في المجتمع كما تم الإشارة لذلك في مقالة سابقة، وهكذا، فلا يمكن قياس جودة التشريع بمعزل عن الفلسفة التي انطلق منها المنظم.
كيف تتناقض فكرة جودة التشريع مع اختلاف الفلسفة التشريعية؟
يمكن مثلا أن نرى مجتمعا معزولا فاقدا لأية جاذبية على مستوى اقتصاده، بعيدا كل البعد عن حركة التجارة الدولية، وعلى الرغم من ذلك نجد المجتمع راضيا عن تشريعاته الحمائية ضد الاستيراد، والسبب يكون أن التشريع قد نشأ من منطلق فكري متحفظ يتبناه المجتمع، لا يرغب بالثروة والنماء بقدر رغبته بالمحافظة على تساوي الدخل بين أفراده، وعدم تسرب ثقافة الاستهلاك إليهم، وتوزيع الثروة بينهم بشكل عادل، حتى وإن كان الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدولة أقل بكثير من قيمة رأس مال شركة مساهمة عالمية واحدة.
وبالعكس، قد نرى مجتمعا مفتوحا على التجارة الدولية دون قيود، مما يؤدي إلى التهام خيرات الدولة من الشركات العابرة للقارات، وإلى خصخصة كل البنية التحتية، ونزول الفئات الاجتماعية من المواطنين تحت خط الفقر، وتَحكُّمِ فئة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال بمصير شعب بأكمله؛ وعلى الرغم من كل هذه الظروف المأساوية قد نجد المجتمع راضيا عن تشريعات الاقتصاد المفتوح، لانتمائه إلى الفكر الذي يحظر أية قيود على حركة الأموال والسياحة، ويدعو إلى المساواة التامة بين المستثمر المحلي والأجنبي، وعدم تكبيل الأعمال بالضرائب، بل نقل العبء الضريبي إلى المستهلكين والعمال والموظفين وباقي العاملين، فالمهم بالنسبة لهذا الاقتصاد هو حركة رأس المال في الدولة، ونمو الناتج المحلي الإجمالي، حتى وإن كان موزعا على نسبة لا تتجاوز 1% من المواطنين.
وهذا التناقض في معايير الجودة التشريعية لا يخص فقط التشريعات الاقتصادية، بل جميع مناحي الحياة التي ينظمها القانون.
وكمثال عن التشريعات المدنية، نجد دولا ترى في عدالة العقود معيارا لنجاح التشريع؛ ولذلك تفرض قواعداً شديدة التفصيل والصرامة على المتعاقدين حماية لمصالحهم أو لمصلحة الطرف الضعيف بينهم.
فيما تجد دولا أخرى، ترى في الحرية التعاقدية معيارا لنجاح التشريع، وأن تنظيم العقود بقواعد صريحة يشكل انتهاكا لحرية أطراف العقد بصياغة بنود العقد وفق إرادتهم الحرة، لذا تكون الأفضلية لاتفاق الأطراف وفق ما انعقدت عليه إرادتيْهما، حيث إن حماية هذه الحرية هو معيار نجاح التشريع حتى وإن أدى ذلك لانتشار الغبن والإذعان بين الناس.
وكمثال عن قانون العقوبات، حيث نجد أن بعض الدول مثلا تجرم حمل السلاح على الناس، وهدفها من ذلك هو حصر القوة بيد الدولة التي يكون عليها حماية الجميع، دون أن تفسح المجال لتشكل عصابات الجريمة المنظمة، ويكون ذلك هو معيار نجاح التشريع.
فيما نجد دولا أخرى تمثل سوقا شبه مفتوح للأسلحة، من منطلق حق الفرد بالدفاع عن النفس، واعتبار ذلك هو معيار نجاح التشريع، حتى وإن أدى ذلك إلى انتشار العنف المنظم وجرائم الكراهية والقتل الجماعي.
ففي ظل هذه الأرضية المتناقضة وغير المنطقية لمعيار جودة التشريعات، فكيف يمكن الحكم عليها؟
ما هي معايير الجودة لنجاح العمل التشريعي؟
إذا كنا نتحدث عن اختلاف فكري بالفلسفة الخاصة بالتشريع، فإن تقييم العمل التشريعي يجب أن ينطلق من تحديد معايير جودة حيادية برأينا.
أي أن علينا النظر بموضوعية وتقييم نجاح التجربة التشريعية بمقياس محايد. وهنا يمكن لنا الإشارة لبعض معايير قياس جودة التشريعات.
(1) قدرة التشريع على تنفيذ الفلسفة التي انطلق منها؛ فالتشريع الناجح هو ذلك الذي يستطيع في نهاية الأمر تنفيذ ما قد انطلق منه فكريا على الأقل.
فمثلا، بالنسبة للتشريعات الحمائية ضد التجارة الدولية، يكون التشريع قد نجح إذا تم استبعاد نفوذ الشركات العالمية عن حركة الاقتصاد المحلي، وكانت قطاعات الدولة كافة قادرة على تلبية احتياجاتها دون الحاجة للاستيراد إلا في حالات نادرة.
بالمقابل، يكون التشريع قد فشل وفق هذا المعيار إذا انطلقت الدولة بالتشريعات الحمائية، وانتهى بها الأمر إلى الاستسلام أمام نفوذ الشركات العالمية، فاضطرت إلى تصدير ثرواتها بشكل خام وبأسعار زهيدة، فيما استوردت منتجات استهلاكية بأسعار خيالية.
(2) قدرة التشريع على الاستمرار بالفلسفة التي انطلق منها: وهو معيار يختلف عن تنفيذ الفلسفة، حيث إن معيار الاستمرار يحمل معه عنصرا زمنيا، فالوصول إلى هدف معين لا يعني دائما القدرة على الاستمرار.
فمثلا، إذا استطاعت دولة تعتبر جنة ضريبية أن تستقطب أكبر الشركات العالمية، حيث نقلت هذه الشركات مصانعها إلى هذه الدولة بسبب رخص تكلفة العمالة، وانعدام العبء الضريبي، فإذا استطاعت هذه الدولة أن تستمر بهذه السياسة الاقتصادية دون أن تشهر إفلاسها، بل استفادت لعقود من عوائد الاستثمارات على شكل وظائف وسياحة وأموال جارية فيها، فيكون التشريع قد نجح في معيار الاستمرار.
أما إذا اضطرت هذه الدولة بعد مرور بعض السنوات إلى فرض الضرائب وقيود تحويل الأموال على الشركات التي جاءت إليها على أنها جنة ضريبية، فإن التشريع يكون قد فشل بتحقيق معيار الاستمرار.
(3) نشر التشريع للأمن الاجتماعي في الدولة: فإذا استقرت معظم فئات المجتمع ورضيتْ بما تحصل عليه من عمل وأجور وحقوق مدنية وسياسية؛ عندها يمكن القول بأن التشريع قد نجح من منظور هذا المجتمع.
أما إذا كان المجتمع محتقنا، ويعيش في حالة من الاضطرابات الاجتماعية؛ فهنا التشريع يكون فشل في تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي كما يريده المجتمع الذي يخضع للتشريع.
(4) مساهمة التشريع في تنفيذ خطط التنمية متوسطة وبعيدة المدى: فإذا نجحت التشريعات بتحقيق رؤى التنمية والتطوير الاستراتيجي، تكون هذه التشريعات ناجحة، بغض النظر عن طبيعة هذه الرؤى ومنبعها الفلسفي.
فمثلا، إذا حددت خطة التنمية في الدولة هدفا مفاده السيطرة على سوق تصدير السلع الغذائية بين دول المنطقة المحيطة بها خلال خمس سنوات، ونجحت التشريعات بالوصول إلى تحقيق هذا الإنجاز، فيكون التشريع ناجحا؛ حتى وإن كانت أهداف تلك الخطط متواضعة بالنظر إلى حجم ثروات الدولة وقدرتها على تحقيق النمو.
(5) رفع التشريع لتنافسية الدولة: وهو من أهم المعايير التي يمكن قياسها على أساس مدى تفوق الدولة على أقرانها، ليس فقط من حيث جاذبية رؤوس الأموال، بل من حيث الرغبة بالسياحة فيها، واستقبال رعاياها دون تأشيرة دخول، والرغبة بالانضمام إلى مجتمعها، فهذا المعيار يدل على نجاح تشريعات هذه الدولة على مستوى عالمي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال