الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مقالتي السابقة، استعرضت مقدمة موجزة عن “الحرب القانونية” كأداة لا غنى عنها لفن الحكم في القرن الواحد والعشرين وعطفًا على هذه المقالة واستكمالًا للحديث عن مفهوم الحرب القانونية وأهميتها البالغة، تأتي هذه المقالة لتوضيح الطبيعة المتطورة للعلاقات الدولية وكيف، في هذا الإطار، تصبح أنواع معينة من القوانين الهجومية والدفاعية أسلحة لا غنى عنها لدولة ترغب في البقاء في صدارة المنحنى العالمي.
إيجازًا لما ورد في المقالة السابقة وتمهيدًا لمقالتي الحالية، فالحرب القانونية، كما يوحي اسمها، هي استخدام القانون كسلاح، ولا يمكن وصم الحرب القانونية، في حد ذاتها، بالسوء أو مدحها بأنها جيدة، فالقانون بطبيعته “محايد”. علاوة على ذلك، لا يهم أن تنكر الدول توظيفها للقانون بينما في الواقع تستخدم معظم الدول بشكل روتيني القانون – كاستراتيجية هجومية ودفاعية – عبر مجالات استراتيجية متعددة. لذلك فإن الحرب القانونية حقيقة لا مفر منها ولا يمكن التخلص منها بالتمني.
يختلف العالم الذي نعيش فيه ويتميز بأنه في حالة تغير مستمر مع وجود أكثر من قوة عالمية تتصارع فيما بينها الآن للهيمنة على النفوذ العالمي. ولنا في حالة الصين خير مثال والتي اعتبر صعودها غير المسبوق أول تحد حقيقي للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. كما دفع صعود الصين الملحوظ الدول إلى إعادة تقييم مدى حكمة وحصافة استراتيجيتها للاعتماد فقط على الولايات المتحدة كحليف. وفي الوقت نفسه، تواجه الدول أيضا معضلة أخرى: كيفية “موازنة” العلاقات في وقت واحد مع قوتين متورطتين في صراع من أجل الهيمنة العالمية؟!
والمتمعن في التنافس الصيني الأمريكي يجد أن كليهما يشتركان في تفضيل التفسير للقانون الدولي المؤيد لموقف كلًا منهما، فالدولتين بحاجة إلى الشرعية لزيادة نفوذهما العالمي. على سبيل المثال، تتذرع الدول الغربية التي تقودها الولايات المتحدة بشكل روتيني بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والمثل الديمقراطية لحث الدول الأخرى على تأييد موقفها من القضايا. وليس من المستغرب أن تستشهد الصين أيضا بشكل روتيني بلغة وتفسيرات للقانون الدولي والتي من شأنها إضفاء صبغة الشرعية على نظرتها للعالم. وعند هذا التقاطع بين “المصالح” و”المطالبات” المتنافسة بين القوى العالمية تكمن التحديات والفرص أمام الدول الأخرى. وبعبارة أخرى، أدى الصراع على الهيمنة العالمية بين القوى العالمية إلى ظهور “منطقة رمادية” زاخرة بالتحديات القانونية، ولكن الأهم من ذلك أنها فرص. إن الدولة التي تتمتع بموقف قانوني تطلعي متطور سيناسبها معرفة كيفية استخدام القانون لصالحها وتفادي إيقاعها في الخطأ.
علاوة على ذلك، عندما تريد الدول التأكيد على أي مسألة من مسائل القانون الدولي، يمكنها القيام بذلك من خلال طرح معاهدة أو اتفاقية جديدة ويكون من شأن الحرب القانونية أن تتيح فرصة كبيرة للدولة الراعية لحشد الدعم من الدول ذات التفكير المماثل وصياغة قانون جديد أو اقتراح تغييرات على القانون الحالي. على سبيل المثال، إذا اقترحت دولة ما أو رعت معاهدة موضوعية لتنظيم جوانب الذكاء الاصطناعي، مما يسلط الضوء الإيجابي على هذه الدولة، ويمكنها من أن يصبح “رائدة النزعة الدارجة” عالميًا، وبالتالي يضيف سهما في جعبتها من “القوة الناعمة”. ومع ذلك، لا يتثنى طرح هذه المبادرات على الفور دون القيام بالدراسات والبحوث اللازمة.
ويشكل انتشار المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية واستخدامها للقوانين كأداة استراتيجية تطورًا هامًا آخر لم يلاحظه الكثيرون. ويمكن لهذه الحرب القانونية التي توظفها المؤسسات أو حرب القانون المؤسسية (كما أحب أن أسميها) أن تحاصر الدول غير المدركة لحقيقة افتقارها للقدرة على فهم المتطلبات الدولية أو تفتقر إلى الرغبة في تحمل التزاماتها على محمل الجد. هذا هو المكان الذي يصبح فيه القانون الدفاعي مهما للغاية لدولة ما.
مثالًا على ذلك حالة فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية والتي تنصب مهمتها على الإشراف على الامتثال العالمي للقيود المفروضة على غسل الأموال وتمويل الإرهاب. على مر السنين، وضعت مجموعة العمل المالي دولًا مثل باكستان، ومؤخرًا الإمارات العربية المتحدة، على “قائمتها الرمادية”. تُعتبر الدولة التي يتم وضعها على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي دولة تُعاني من “أوجه قصور استراتيجية” في نظامها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. يمكن أن يؤدي إضافة دولة ما إلى القائمة الرمادية لفرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية إلى خسائر مالية فادحة لهذه الدولة المستهدفة. على سبيل المثال، بعد وضعها على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي، عانى الاقتصاد الباكستاني من خسارة هائلة بلغت 38 مليار دولار أمريكي.
من الجدير بالملاحظة هنا أن فرقة العمل هذه ليست مجرد منظمة حكومية دولية أخرى تفتقر إلى القوة لفرض قراراتها. بدلا من ذلك، تستمد مجموعة العمل المالي قوتها من خلال قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تم تمريرها في أعقاب أحداث 11/9 والتي تمكنها من فرض غرامات على الدول التي لا تمتثل لتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. والجدير بالذكر أن الدول الأعضاء في مجموعة العمل المالي تشمل الدول الغربية التي مارست دورًا مهمًا في تطوير قوانين مجموعة العمل المالي وتتمتع بنفوذ داخل المجموعة.
وكما ذكر أعلاه، قامت فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية على مر السنين بتسليح قواعدها المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب ضد الدول الأخرى. المبدأ القانوني: “الجهل بالقانون ليس عذرا” ينطبق أيضا في العلاقات الدولية. ولذلك ليس أمام الدول من خيار سوى أن تكون مجهزة تجهيزًا كافيًا لمواجهة تحدي فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية. ومن أجل القيام بذلك، ينبغي على أي دولة إجراء إعادة تقييم كاملة لقوانينها المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتأكد من تحديثها بما يتماشى مع “أفضل الممارسات الدولية”.
ومع ذلك، فإن فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية هي مجرد مثال واحد على منظمة حكومية دولية ذات سلطات واسعة. وهناك العديد من المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى ذات الولايات الواسعة النطاق، والتي لديها القدرة على فرض عقوبات ووضع الدول المستهدفة في مرماها، مما يؤدي إلى خسائر في سمعة هذه الدول المستهدفة وخسائر مالية.
نستعرض في المقالة التالية حول هذا الموضوع أنواع أخرى من القوانين التي تستخدمها الدول وتوظفها في مسعاها للريادة والتقدم والرقي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال