الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تلعب منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، منذ تأسيسها في عام 1960دورا مهيمنا في ديناميكيات سوق النفط العالمية، حيث سعت من البداية إلى حماية مصالح الدول المنتجة للنفط من خلال تنسيق مستويات الإنتاج وضمان استقرار الأسعار. وفي السنوات الأخيرة، دخلت أوبك في شراكة مع دول أخرى مصدرة للنفط خارج عضويتها ومن ضمنها روسيا، والمعروفة مجتمعة باسم أوبك +. وقد أدى هذا التحالف إلى تعزيز نفوذ أوبك، وكان له دور فعال في تشكيل سوق النفط واستقرار الأسعار. إلا أنه مع تطور مشهد الطاقة العالمي بدخول بدائل الطاقة المتجددة وتزايد ضغوط التطورات الجيوسياسية، تواجه أوبك+ العديد من التحديات من أجل الحفاظ على أهميتها واستقرارها.
إن أحد الأدوار الأساسية لـ أوبك+ في سوق النفط خلال السنوات الأخيرة هو التحكم في مستويات العرض من أجل التأثير على الأسعار. ومن خلال تخفيضات الإنتاج أو زيادته بشكل منسق، يستطيع تحالف أبوك+ معالجة حالة عدم التوازن في السوق بشكل فعال وتحقيق الاستقرار في أسعار النفط. ومما لا شك فيه أن لهذا الدور تداعيات كبيرة على كل من الدول المستهلكة والمنتجة للنفط، لأنه يؤثر بشكل مباشر على تكلفة مدخل الطاقة في عمليات الإنتاج في الدول المستهلكة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر إجراءات أوبك + على اقتصادات البلدان التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، مثل المملكة العربية السعودية، حيث تؤدي التقلبات في الأسعار في بعض الأحيان إلى طفرات اقتصادية أو ركود في أحيان أخرى. وعلى هذا النحو، تتمتع المنظمة بقوة هائلة وغالبًا ما تكون موضوعًا للتدقيق والنقاش في دوائر الطاقة العالمية.
لقد تمكنت أوبك من الحفاظ على نفوذها في أسواق النفط وأسعاره على مر السنين على الرغم من الصراعات السياسية بين أعضائها في بعض الفترات التاريخية، وايضاً في حالات عدم الالتزام بحصص الإنتاج في بعض الأحيان. ومن خلال تعديل مستويات الإنتاج بشكل استراتيجي، يمكن لمنظمة أوبك خلق ندرة أو وفرة في السوق. إن أهم العوامل الرئيسية التي تساهم في نفوذ أوبك هو قدرتها الإنتاجية الكبيرة. ففي العقود الأولى منذ تأسيسها، كانت منظمة أوبك تنتج حوالي 30% من إنتاج النفط العالمي وتواصلت حصتها في الارتفاع حتى بلغت 54% في 1977، وقد أتاح ذلك للمنظمة رغم تراجع حصتها من الإنتاج العالمي تدريجيا على مر السنين لتصل إلى ما يقرب من 35% في عام 2023 أن يكون لها دور قوي على أسواق النفط العالمية وممارسة التأثير على الأسعار. ويمكن أن يعزى هذا الانخفاض إلى ارتفاع الطاقة الإنتاجية خارج أوبك، خاصة في دول مثل الولايات المتحدة وكندا. وقد بلغ إنتاج أوبك 27.8 مليون برميل يوميا في شهر سبتمبر 2023، في حين بلغ إنتاج المملكة العربية السعودية 8.99 مليون برميل يومياً، (الرسم البياني 1).
الرسم البياني رقم 1: إنتاج أوبك والإنتاج العالمي من النفط
وعلى إثر عودة النشاط الاقتصادي بعد إعادة فتح الأعمال وانحسار تأثير الوباء شهدت أسعار النفط ارتفاعا بوتيرة سريعة. وتفاقمت هذه الزيادة بشكل أكبر بسبب الحرب الروسية الأوكرانية في بداية 2022، مما أدى إلى وصول النفط إلى مستوى 129 دولارًا للبرميل في أغسطس 2022، متأثراً بهامش مخاطرة الانخفاض الحاد في فائض الطاقة الإنتاجية لمجموعة أوبك الذي وصل إلى 1.7 مليون برميل يومياً، والذي جاء بعد قيام أوبك بالتراجع عن قرار خفض الإنتاج والزيادة بشكل متدرج ابتداءً من يوليو 2021. إلا أنه مع بوادر تباطؤ الاقتصاد العالمي في عام 2023 بسبب دورة تشديد السياسة النقدية، بدأ الطلب على النفط في التراجع، واتخذت الأسعار مسارًا هبوطياً حتى وصلت إلى 72 دولاراً للبرميل في مايو 2023. غير أن هذا الاتجاه الهبوطي لم يدم طويلاً، حيث اتخذت أوبك+ قرارها بخف الإنتاج بنحو مليون برميل في الوقت الذي تصاعد فيه فائض الطاقة الإنتاجية ليصل إلى 4.2 مليون برميل يومياً. ثم ارتفعت أسعار النفط مرة أخرى، لتصل إلى 87 دولارًا للبرميل في أكتوبر مع تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية على إثر اندلاع الحرب في غزة، لكنها استقرت في وقت لاحق وبدأت تتراوح حول 77 دولارا للبرميل، في ظل تضاؤل مخاطر حرب إقليمية، (الرسم البياني 2).
الرسم البياني رقم 2: مستويات إنتاج أوبك وتقلبات أسعار النفط
تشكل القدرة الاحتياطية لدى أوبك أحد عوامل القوة التي تساعدها على تعزيز استقرار السوق من خلال العمل كمنتج متأرجح، والتدخل لتعويض أي اضطرابات عن طريق زيادة أو خفض الإنتاج. ومن خلال الاستجابة الفعالة للتغيرات في ظروف سوق النفط، تقلل الطاقة الفائضة لدى أوبك من حجم تقلبات الأسعار، مما يضمن إمدادات نفط أكثر موثوقية ويمكن التنبؤ بها. ويعد هذا الاستقرار ضروريًا للشركات والمستثمرين والاقتصادات التي تعتمد على الحفاظ على مورد طاقة ثابت وبأسعار معقولة. ويمكن ملاحظة العلاقة العكسية بين أسعار النفط والطاقة الاحتياطية لدى أوبك على النحو التالي، فعندما تنخفض الطاقة الاحتياطية لدى أوبك، تميل أسعار النفط إلى الارتفاع، والعكس صحيح. ويمكن أن تعزى هذه العلاقة إلى حقيقة أن الطاقة الفائضة تمثل قدرة أوبك على زيادة إنتاج النفط بسرعة استجابة لطلب السوق أو انقطاع العرض. وعندما تكون الطاقة الاحتياطية منخفضة، فهذا يشير إلى محدودية المرونة في زيادة الإنتاج، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، كما حدث في أغسطس 2023 عندما وصلت أسعار النفط إلى 129 دولار للبرميل على إثر انخفاض الطاقة الفائضة إلى 1.47 مليون برميل يومياً، وعلى العكس من ذلك، عندما تمتلك أوبك قدرة فائضة كبيرة، فإن ذلك يشير إلى وجود مجال واسع لزيادة إنتاج النفط، وهو ما أدى إلى تراجع الأسعار حيث وصلت إلى 77 دولار للبرميل في نوفمبر 2023 نتيجة زيادة فائض الطاقة إلى 4.19 برميل يومياً، (الرسم البياني 3).
وبالإضافة إلى القدرة الإنتاجية، يتعزز نفوذ أوبك أيضًا على أسواق النفط وأسعاره بسبب الحجم الهائل لاحتياطاتها، حيث تشير التقديرات إلى أن أوبك تمتلك ما يقرب من 70٪ من احتياطيات النفط العالمية، بإجمالي يبلغ 1.6 تريليون برميل. ومع وجود مثل هذه الكمية الهائلة من احتياطيات النفط تحت سيطرتها، تمتلك أوبك القدرة على تنظيم ديناميكيات العرض والطلب المستقبلي، وبناء شراكاتها الاستراتيجية واتفاقياتها التجارية مع كبار مستهلكي النفط، مثل الصين والهند، والحفاظ على استمرا ر وجود قوي في هذه الأسواق المتنامية. إن تركز الاحتياطيات داخل بعض الدول الأعضاء في أوبك، وخاصة مثل المملكة العربية السعودية، يزيد من تعزيز نفوذ أوبك، حيث تمتلك المملكة العربية السعودية وحدها 17.2% من احتياطي النفط العالمي، مما يجعلها لاعباً حيوياً داخل أوبك. وإن نفوذ المملكة العربية السعودية، إلى جانب أعضاء أوبك الآخرين المؤثرين مثل العراق وإيران والإمارات العربية المتحدة، تعزز قدرة المنظمة على تنسيق وتنفيذ سياسات إنتاج النفط. وتستفيد هذه البلدان من قدراتها الإنتاجية والاحتياطية لتعظيم تأثير أوبك على أسواق النفط، وفي ذات الوقت ضمان تمثيل مصالحها والحفاظ عليها، (الرسم البياني4).
وبينما أثبتت أوبك+ قدرتها على التأثير في سوق النفط، فإنها تواجه مجموعة من التحديات الحالية والمستقبلية. وأحد التحديات الرئيسية التي يواجهها التحالف هو زيادة مصادر الطاقة المتجددة والتركيز العالمي المتزايد على الحد من انبعاثات الكربون. وأنه مع تحول البلدان نحو بدائل أكثر مراعاة للبيئة، قد ينخفض الطلب على الوقود الأحفوري التقليدي، مثل النفط. ويشكل هذا تهديدًا لقدرة أوبك+ على إبقاء أسعار النفط مرتفعة في المدى المتوسط والبعيد، حيث يؤدي انخفاض الطلب حتمًا إلى زيادة العرض في السوق. كما مكّن ظهور أساليب الاستخراج غير التقليدية، مثل التكسير الهيدروليكي في الولايات المتحدة من الاستفادة من احتياطيات النفط الهائلة وزيادة مستويات إنتاجها. وقد أدى هذا إلى تغيير ميزان القوى في سوق النفط العالمية والحد من قدرة أوبك على تحديد الأسعار من خلال قدرتها الإنتاجية فقط. وعلى الرغم من هذه التحديات، تمكنت أوبك من الحفاظ على نفوذها من خلال آليات مختلفة. وتتمثل إحدى هذه الآليات في قدرة المنظمة على تنسيق وتحديد حصص الإنتاج بين الدول الأعضاء فيها. وفي حين أن عدم الالتزام بهذه الحصص يحدث من وقت لآخر، فإن أعضاء أوبك المؤثرين، مثل المملكة العربية السعودية، غالبا ما يتدخلون طوعياً بتعديل مستويات الإنتاج الخاصة بهم. وهذا يساعد على استقرار أسعار النفط العالمية ويضمن بقاء أوبك لاعباً مؤثراً في السوق مع تمكنها من تحقيق مستويات الأسعار المستهدفة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال