الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تسمو الغاية من التشريع الدولي على مجرد تصنيف المصالح وحمايتها وتنظيمها، فالمنطلق الفكري الدولي ينشأ من ضرورة حماية الإنسان ككيان وثروة بغض النظر عن المصالح؛ أي أن الإنسان يتحول بذاته إلى نظام عام سام.
فقد ظهرت الحروب على أنها المثال الأكثر انتهاكا لمعنى الإنسانية؛ فهي تهدف إلى إفناء وترهيب مجموعة من الناس، ويجعلهم يخضعون لسلطة الأمر الواقع، لذلك كان لا بد من ضبط سلوك الدول، وجعلها أكثر انتماء إلى إنسانيتها، وأكثر ارتباطا بالغايات الإنسانية التي كانت سببا في نشوء فكرة الدولة من رعاية مصالحه وحمايته وتنمية حياته واستدامة موارده وكرامة حياته. ومن هنا فقد نشأت فكرة قانون دولي من منطلق إنساني.
القانون الدولي الإنساني..
تنظم اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والملحقات المضافة إليها عام 1977 أحكام النزاعات المسلحة، وقد صدرت هذه الاتفاقيات على أرضية تاريخية مروعة من الدمار بعد الحرب العالمية الثانية.
حيث ظهر تضارب مصالح الأقطاب الدولية العظمى بين الشرق والغرب على أنه خطر يقترب من حرب عالمية جديدة؛ لذا فقد كان لا بد من الإرادة الدولية أن تتدخل حتى لا تتكرر ويلات الحرب العالمية مرة أخرى.
الحقيقة، أن القانون الدولي الإنساني هو ابتكار تشريعي مركب، كالتالي:
أي أن القانون الدولي الإنساني يضع خطوطا حمراء للأعمال العدائية وذلك في سبيل حماية حقوق الضحايا.
وقد كان الإجماع الإنساني لضبط الحروب متفوقا على المصالح الضيقة، وعليه أرست اتفاقيات جنيف المبادئ العامة خلال فترة النزاعات:
ويعد مبدأ الإنسانية أحد أهم هذه المبادئ، ويقصد بها أن الأعمال العدائية يجب ألا تستقل عن كون النزاع يجري على رحى الإنسان الخاسر للمعركة، ولتحقيق أهداف الإنسان الفائز بها؛ أي أنها معركة إنسانية في نهاية المطاف لا يجوز أن تتجاوز الفكر الإنساني.
وكذلك يعد مبدأ التمييز بين المدني والعسكري ذو أهمية كبرى ويرتكز على أن على قيادة العمليات العسكرية خلال الحرب يجيب أن يميزوا بين الأهداف المدنية والعسكرية؛ وهو ما يعني بالاستنتاج ضرورة حماية المدنيين من غير المشاركين بالأعمال العدائية، وعدم القيام بضربات عسكرية عشوائية لا تميز بين مدني وعسكري.
وقد أورد البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 مبادئ العمليات العدائية، والتي تعد من أهمها أن رد الفعل العدائي يجب أن يكون متناسبا مع الفعل العدائي، ويجب عزل الحواضر المدنية من ويلات الحروب والأعمال العدائية.
هذه المبادئ الإنسانية لا غبار عليها، لكن المشكلة هي في تصنيف الحرب القائمة على الأرض ضمن معنى النزاع الخاضع للقانون الدولي الإنساني.
بين “النزاع الدولي” و”غير الدولي” و”الداخلي”..
في القانون الدولي الإنساني غموض المصطلحات يذهب ضحيته الإنسان
سنرى من خلال التحليل التالي كيف تؤثر المصطلحات السابقة على مصير الشعوب:
أولا: النزاع الدولي: وهو القائم بين دولتين عضوتين في الأمم المتحدة، سواء أكانت إحدى الدولتين قد اعترفت بإعلان الحرب أم لا؛ وفي ظل النزاع الدولي، تنطبق أحكام اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها المعدلة لها، أي أن جميع المبادئ العامة والعملياتية للقانون الدولي الإنساني تنطبق على النزاع الدولي.
ثانياً: النزاع غير الدولي: وهو النزاع الذي لا يجري بين دولتين، لكنه يجري بين قوتين عسكريتين منظمتين من ذات الدولة؛ أي أن النزاع غير الدولي هو نزاع عسكري منظم بين الوطنيين من الدولة نفسها، هذه النزاعات تدخل أيضا في نطاق مبادئ القانون الدولي الإنساني الواردة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، وقد شرح تفاصليها البروتوكول الثاني المعدل لهذه الاتفاقيات لعام 1977.
لكن المشكلة تكمن في تكييف النزاع هل هو نزاع غير دولي يخضع للقانون الإنساني، أم نزاع داخلي.
ثالثاً: النزاع الداخلي: مثل الحروب الأهلية التي تجري بين جماعات مسلحة غير منظمة بتنظيم الجيوش، أو بين تلك الجماعات والجيش الوطني. هذا النزاع الداخلي يعتبر محل نقاش في خضوعه للقانون الدولي الإنساني من عدمه؛ حيث يرى البعض أن النزاعات الداخلية لا تحظى بأية حماية من القانون الدولي الإنساني، ويبقى فقط إمكانية الاستناد على مبادئ الكرامة الإنسانية والعرف الدولي.
وبهذه الطريقة، يمكن أن نجد الناس يعانون ويلات الحروب، فيما يكون القانون الدولي الإنساني عاجزا عن التحرك بسبب غموض المصطلحات وعدم انضباط النص على نطاق تطبيق واضح له.
قانون دولي دون جهة تنفيذ عليا..
إشكالية تمس جدوى التشريع الدولي
حتى وإن افترضنا جدلا أن النزاع قد خضع للقانون الدولي الإنساني، وجاءت سلطة مجلس الأمن حتى تفرض قوتها التنفيذية لتطبيق المبادئ الإنسانية تحت مظلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح استخدام القوة لردع منتهكي القانون الدولي الإنساني.
حتى في هذه الحالة، قد يكون حق النقض (الفيتو) سببا لعدم تطبيق مبادئ الإنسانية؛ حيث تمتلك الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن هذا الحق (الولايات المتحدة، الاتحاد الروسي، الصين، فرنسا، المملكة المتحدة) استنادا على ميثاق الأمم المتحدة، وقد تستخدمه تلك الدول لتحمي الدول التي تنطوي تحت قطبها.
ويجادل مؤيدو هذا الحق بأنه يرسي الاستقرار الدولي بين القوى العظمى، لكنه بطبيعة الحال يمنع العدالة الدولية وتنفيذ القانون الدولي إلا وفق معايير مزدوجة.
هذا المنطلق السياسي لصدور قرار من مجلس الأمن، يؤدي إلى المساس بجدوى التشريع الدولي من جذوره، ويجعل تنفيذ القانون الدولي الإنساني ممكنا فقط على الدول الضعيفة غير المنضوية تحت لواء قطب من أقطاب الدول الكبرى التي تمتلك حق النقض في مجلس الأمن.
بالتالي، لن يبصر القانون الدولي الإنساني النور إلا إذا نشأت جهة تنفيذ دولية مستقلة لا تعترف بالتجاذبات السياسية ولا تفرق بين دول كبرى وصغرى.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال