الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما أجرى خبراء البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد أبحاثهم حول معجزات الدول الناجحة اقتصادياً، اكتشفوا ثلاثة عوامل مشتركة لنجاحها. كان العامل الأول يصب في تطوير التعليم والتدريب، حيث تم استبدال أساليب الحفظ والحشو والتلقين بمبادئ الفكر والمعرفة والابتكار والبحث والتطوير. وجاء العامل الثاني الخاص بالتطبيق الصارم لنظام العمل والانضباط الوظيفي، لتلقين كل من يستهين بالنظام ويتهاون في العمل درساً قاسياً وعبرةً لمن يعتبر. أما العامل الثالث فكان من نصيب الحوافز الممنوحة للمشاريع الاستثمارية الوطنية، وفي مقدمتها المنشآت الصغيرة والمتوسطة من خلال تسهيل معاملات المستثمرين في هذه المنشآت ودعمها وتحصين قدراتها والدفاع عن مصالحها لحثها على توطين الوظائف ونقل التقنية وتصدير المنتجات.
ونظراً لأن هذه تلعب دوراً بالغ الأهمية في الاقتصاد العالمي، لتحقق مساهمتها دولياً نسبة 46% من الناتج العالمي الإجمالي، وبما لا يقل عن 80% من إجمالي القيمة المضافة، ويعمل فيها 76% من إجمالي العمالة في القطاع الخاص. كما بلغت مساهمتها الاقتصادية اقليمياً نسبة 75% في كوريا الجنوبية، و65% في اليابان، و48% في ألمانيا وأمريكا. وقفزت مساهمة صادراتها من إجمالي صادرات الدول نسبة 72% في أمريكا و63% في أوروبا و60% في الصين و56% في تايوان و70% في هونج كونج و44% في كوريا الجنوبية.
ولكون هذه المنشآت تلعب دوراً بالغ الأهمية في التنمية الاقتصادية، تبادر مختلف دول العالم بتقديم كافة أشكال الرعاية والتشجيع لها، فلجأت الصين والهند إلى توفير المشاريع العديدة لمنشآتها التي زادت عن 10 مليون مشروع خلال العقد الماضي، وشكلت نحو 90% من العدد الإجمالي للمشاريع الاقتصادية في كلا الدولتين. وقامت دول الاتحاد الأوروبي بتوفير التعليم المهني المجاني للعاملين في منشآتها، لتستقطب 60% من مجموع الأيدي العاملة في الاقتصاد الأوروبي، بينما أطلقت اليابان معاهد إدارة الأعمال والتقنية لتسخير مواردها البشرية في المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وتقوم هذه المعاهد بتدريب 40 ألف من العاملين سنوياً وعلى فترات مختلفة في مجالات التطوير الإداري والتقني وتدعمها بأكثر من 1200 خبير في الإدارة والإنتاج والتسويق والمحاسبة المالية وتقنية المعلومات. كما لجأت اليابان إلى تمويل هذه المشاريع بقروض ميسرة لإعادة هيكليتها وتطوير إداراتها ورفع قدراتها التنافسية.
وبما أن المملكة تهدف في رؤيتها 2030 إلى زيادة نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني من 40% إلى 65%، وزيادة نسبة مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى 35%، فإن هذه المنشآت ستلعب دوراً بالغ الأهمية في التنمية الاقتصادية السعودية، خاصةً وأن المملكة تتمتع بالمزايا التنافسية الفريدة بين دول العالم، والمتمثلة في استثناء هذه المنشآت نظاماً من مبدأ المعاملة الوطنية في مشترياتها الحكومية وتفضيلها على المنتجات الأجنبية، إضافة إلى قدرة المملكة على تمويل هذه المنشآت بقروض ميسرة، وتشجيع صادراتها من خلال اتفاقية تمويل التجارة المبرمة بين الدول الأعضاء في البنك الاسلامي للتنمية. لذا فإن تنظيم وتشجيع منشآتنا الصغيرة والمتوسطة ومنحها الدور الأكبر في مشترياتنا الحكومية ومشاريعنا التنموية ستحقق الغرض من إنشائها الهادف لإثراء القيمة المضافة المحلية وتوطين وظائفنا وزيادة قيمة صادراتنا غير النفطية، فهي المعجزة الحقيقية التي أثرت اقتصاديات الدول وحققت أهدافها.
بدون أدنى شك فإن جميع دول العالم دون استثناء، التي آثرت عدم استخدام العوامل الثلاثة المشتركة للنهوض باقتصاداتها، تراجعت قدراتها المحلية وخسرت مراتبها التنافسية العالمية. والدليل على ذلك أن معظم التقارير الدولية أثبتت تراجع مقومات دولة فنزويلا، التي كانت ولا زالت تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم، ولكن اعتمادها على سلعة وحيدة للدخل أدى إلى انهيار قواها الاقتصادية لتسجل في العام الماضي تضخماً تراكمياً بلغ 686.4%، مع فقدان عملتها لنحو 99.99% من قيمتها، واحتلالها المراتب الأولى كأكثر الاقتصادات بؤساً في العالم. وفي المقابل جاءت اليابان وألمانيا وبريطانيا وسنغافورة وجنوب كوريا، التي أبدعت في استغلال عوامل النجاح المشتركة، متقدمةً بين دول المعمورة في تقارير التنافسية العالمية والقوة الاقتصادية، علماً بأنها تستورد كافة احتياجاتها النفطية ومعظم سلاسل إمداد صناعاتها الأولية.
أما أمريكا، التي تعتبر من أفضل دول العالم نهوضاً باقتصادها، فلقد حققت المرتبة الأولى عالمياً في ناتجها المحلي الإجمالي، الذي من المتوقع أن يفوق 26.9 تريليون دولار في العام الجاري، ليعادل أكثر من ربع الناتج العالمي الإجمالي. وفي الوقت الذي يختلف حزبيها بشدة في معظم سياساتهما الداخلية والخارجية، إلا أنهما تتفقان في مجالسهما الرسمية على تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية أولاً وتفعيل أدواتها بسيل من الدراسات الاستراتيجية والدعايات الإعلامية والمبادرات الابداعية لإقناع الشعب الأمريكي، قبل إقناع شعوب العالم، بمدى قدرة الحزبين على تنفيذ هذه الأدوات لتحقيق أهدافها الاقتصادية. لذا لجأت الأجهزة التنفيذية للحكومات الأمريكية المتعاقبة إلى تأسيس مجموعة من الشركات متعددة الجنسيات ودعمها بوسائل البحث العلمي والتطور التقني لتصبح العمود الفقري للتنمية المستدامة، وأغدقت عليها 42% من ناتجها المحلي الإجمالي، وفتحت أمامها الأسواق العالمية لزيادة أنشتطها المالية والتجارية والاستثمارية.
واليوم، طبقاً لقائمة “فورشين” لأكبر 500 شركة في العالم، تحتل 155 شركة أمريكية أفضل المواقع في العالم وتمتلك ثروة تزيد عن 23 تريليون دولار، لتستأثر بحوالي 45% من إجمالي التجارة العالمية، وتتمركز في مناطق الدول الصناعية المتقدمة رأسمالياً مثل الإتحاد الأوروبي واليابان وجنوب كوريا ودول الخليج العربية، وذلك لبسط نفوذها الاقتصادي وقدراتها الاستثمارية حول العالم.
في نهاية العام المنصرم احتلت أمريكا المرتبة الأولى في عدد الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 47%، وجاءت أوروبا في المركز الثاني بنسبة 33%، ثم اليابان وسويسرا بنسبة 6% لكل منهما و8% موزعة بين الدول الأخرى. واليوم أعادت هذه الشركات متعددة الجنسيات رسم خريطة الإنتاج على المستوى العالمي دون أن تستقر في بلد واحد، فهي تستخرج المعادن والثروات من دولة وتحولها لمواد نصف مصنعة في دولة ثانية لتنتج السلعة النهائية في دولة ثالثة، معتمدة بذلك على مزايا الدول التنافسية ومقدار القيمة المضافة المحلية لكل دولة. فأصبح من الصعب اليوم تحديد جنسية السلعة المنتجة لأن أجزائها تكونت من آلاف المصانع المنتشرة في العديد من الدول، وأصبح المستهلك يشتري الماركات العالمية التي لا تحمل شهادة الدولة، وإنما تتمتع بأسماء المنتجات فقط. لذا انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة اندماج الشركات في كافة المجالات، معتمدة بذلك على قواعد وأحكام العولمة التجارية، ومنها حقوق الملكية الفكرية، وقواعد المنشأ، وتراخيص الاستيراد والتصدير، وانخفاض الرسوم الجمركية مع غياب العوائق الفنية.
وبالأمس القريب احتفلت اليابان، التي تعتمد صناعاتها على 86% من المواد الأولية المستوردة، بتفوق منتجاتها على مثيلاتها الأوروبية والأمريكية، واحتلالها المركز الرابع كأكبر اقتصاد في العالم، وحيازتها على المركز الأول بين دول المعمورة في كفاءة عمالتها الفنية ومستواهم التقني. وكذلك الهند، الفقيرة بموارد الطاقة، التي ركزت أولوياتها على توفير الميزة النسبية لمنتجاتها، والكفاءة النوعية لصناعاتها، والتحرير التدريجي لتجارتها، وتطبيق مبدأ المنافسة العادلة في أسواقها. فعلى عكس ما تنتهجه الدول النامية، لجأت الهند إلى تخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها، وفتحت أسواقها للاستثمار الأجنبي، وأوقفت تدخل الدولة في تسعير منتجاتها، فحققت نمواً مستداماً لاقتصادها عجزت عن تحقيقه معظم الدول النفطية.
أما كوريا الجنوبية، التي تستورد 78% من النفط لسد احتياجاتها، فلقد أبدعت في هيكلة التعليم وتوجيه مخرجاته للتدريب على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، فأصبحت تمتلك اليوم أكبر منشآت بناء السفن في العالم، وأفضل خدمات الجيل الخامس للاتصالات الضوئية وتقنية المعلومات، لتحتل اليوم المركز الثالث في جذب الاستثمارات الأجنبية، والمرتبة الخامسة كأكبر مُصّدِر للمنتجات الذكية في العالم.
الدول الغنية بمواردها النفطية لا تحتاج إلى إعادة اختراع العجلة لتحقيق أهدافها الاقتصادية، فقريتنا الكونية تزخر بالمعجزات التي حققتها دول العالم الفقيرة بموارد الطاقة، وصعدت بتطبيق عوامل النجاح المشتركة، التي اكتشفتها المنظمات الدولية، لتحقق المراكز المتقدمة بين دول العالم الأول من خلال تطبيق هذه العوامل باحترافية متميزة لكي تمتلك أفضل معاقل الصناعة التصديرية في العالم وأرقى المنتجات الوطنية بين دول المعمورة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال