الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا يمكن إنكار جهود هيئة سوق المال في ترقية السّوق السّعوديّ وتعزيز الثّقة فيه، وما رافق ذلك من التّحديثات المؤسّساتيّة والقانونيّة الّتي أدخلتها حرصًا منها على سمعته. أتمنّى أن يسع صدر الهيئة لبعض الأمنيات، وهذا ما لمسته منهم في لقائهم الخاصّ مع شخصي المتواضع. سأتحدّث في هذا المقال عن الغرامات والأحكام المدنيّة والجنائيّة الّتي صدرت لمصلحة هيئة سوق المال نتيجة مخالفات أحكام أنظمة ولوائح الهيئة، فبحسب تقريرٍ للهيئة، تجاوزت الغرامات ملايين الرّيالات. يُحسب للهيئة ضربُها بعصا من حديد كلَّ شخص تخوِّله نفسه التَّلاعب على حساب المستثمرين. يتبادر إلى الذّهن هنا السّؤال: ماذا عن المستثمر العاديّ والمتضرِّر مباشرةً، مثل المدرِّس والأب والممرِّضة، الَّذي يدخل السّوق عبر استقطاع جزء من راتبه رغبةً منه في تحقيق عوائد استثماريّة وتحقيق أمانٍ استثماريٍّ لأبنائه؟ فيأتي جواب الهيئة: البابُ مفتوح، تستطيع رفع دعوى والمطالبة بالتّعويض، أو لكم التّقدُّم عبر دعوى جماعيّة. ولكن، هل هذا مناسب في السّوق السّعوديّ، على الأقلّ في المرحلة الحاليّة؟
فحتّى في منهج هيئة سوق المال الأمريكيّة SEC المبالغ في الحرّيّة وعدم التّدخّل، نجد تدخُّلًا ولو من باب الاستثناء عبر صناديق تعويض المستثمرين. بين الحين والآخر، تطلب SEC من المحكمة إنشاء صندوق مسمّى بـ Fair Funds لتعويض المستثمرين في بعض القضايا، وأجد مثل هذه الظّروف أكثر أهمّيّة في سوقنا السّعوديّ، فمكاتب المحاماة السّعوديّة ما زالت أضعف من أن تتصدّى لدعاوى جماعيّة دون الحصول على مقدّم ماليّ fee، أو دون أن يكون خلفها مستثمرٌ كبير. وكثير من المستثمرين المتضرّرين هم، وعلى الأرجح، من صغار المستثمرين، وقد يُفاجئك عدم معرفتهم أصلًا بحقيقة وجود حقٍّ لهم بالتّعويض. وحتّى هيكليّة شركاتنا في السّوق السّعوديّ وتركيز الملكيّة وأسلوب الحوكمة مختلف عمّا هو عليه في السّوق الأمريكيّ؛ فهناك يطغى الاستثمار المؤسّساتيّ، لا استثمار الأفراد retail كما هو الحال لدينا، على الرّغم من حرص الهيئة على ارتفاع الاستثمار المؤسساتي. وحتّى لو أخذنا بمنهج مَن يقول: “لماذا لا يتحرّك المستثمر برفع شكوى”، فالمسألة أكثر تعقيدًا، فكسب الهيئة للقضيّة أمام لجنة الفصل في منازعات الأوراق الماليّة لا يمنح المستثمرين الحقّ بهذا التّعويض أتوماتيكيًّا، فعلى هذا المستثمر أن يثبت أركان المسؤوليّة بالكامل، من خطأ وضرر وعلاقة سببيّة، فضلًا عن حقّ التّتبّع والإثباتات اللّازمة أمام لجنة فصل المنازعات في الأوراق الماليّة، كما أنّ التّكلفة الماليّة لمثل هذه القضايا عالية.
قد ألمس العذر للهيئة، فربّما تتحرّج هيكليًّا من إنشاء صندوق لتعويض المستثمرين، فقد يُنظر إليه على أنّه تدخّلٌ في هيكليّة السّوق وكفاءته الاقتصاديّة، أو تدخّلٌ حكوميٌّ مباشرٌ عبر تمثيل مباشرٍ للمساهمين، وهو دور غير مناط لها به، وقد يثبُت عدم كفاءة مثل هذا التّعويض؛ فسيكون هذا التّعويض من المساهمين المتضرِّرين بشكلٍ غير مباشر، فالشّركة المخالفة، والّتي لم تستفد غالبًا من المخالفات، ستدفع في نهاية المطاف وكأنّ الأموال انتقلت من المساهمين هنا ودُفعت لهم من هنا. كما قد تتحرّج الهيئة من التّدخّل حتّى لا يتعوّد المستثمر على الخمول رغبة في أن يكون له أدوار حوكميّة أكبر.
وهناك حرجٌ قانونيٌّ، فمن النّاحية القانونيّة البحتة، قد ترى الهيئة تدخُّلها نيابة عن المستثمرين أشبه بأخذها دورين خاصّ وعامّ، أو قد ترى أنَّه يجعل سلطتها اعتباطيّة. على سبيل المثال، هناك إشكاليّة في السّوق الأمريكيّ، وهي: ما الحالات الّتي للهيئة أن تطلب فيها مثل هذا الصّندوق؟ يصعب حصر تلك الحالات، ومن هنا تأتي الاعتباطيّة، فلهذا نقاش قانونيّ طويل خارج المقال. ولكن، لو صَدَقنا في إنشاء مثل هذه الصناديق، ستكون سلطة الهيئة تقديريّة اعتباطيّة، فهناك حالات مشابهة وغير واضحة. مثلًا، في لائحة الاندماج والاستحواذ، تضع لها الحقّ في م٢٣ بإجبار المشتري بالعرض الإلزاميّ في حال بلغت نسبته أكثر من ٥٠%، وحتّى الآن لا أحد يعلم ما هي اعتبارات الهيئة لممارسة هذه السّلطة التّقديريّة.
حسب تصريح سابق لرئيس هيئة سوق المال، ما زالت الهيئة تدرس إنشاء صندوقٍ لتعويض المستثمرين، والذي لم يرَ النّور حتّى الآن، فتطوير آليّات تعويض المستثمرين تمنحهم الأمان على الأقلّ كمرحلة مبدئيّة في القضايا الّتي لا مدّعيَ عامًّا فيها بالذّات إذا كان المخالف شركة مدرجة أو Deep pocket، أو كانت شركات وساطة ماليّة. ويبرز مثل هذا الطّلب خاصّة مع طلبات الإدراج المتزايدة وضعف بلورة الهيكليّة المؤسّساتيّة في السّوق السّعوديّ، فضلًا عن عدم نضج البيئة القانونيّة في أخذ زمام الدّعاوى الجماعيّة لتعزيز الثّقة في السّوق السّعوديّ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال