الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
البحث القانوني المنطلق والآلية
إن كلمة “بحث” لا تعني فقط الدراسة والتحليل؛ بل إنها تعني الاجتهاد لتكوين قاعدة بيانات جديدة بالباحث تكون هي المنطلق له حتى يرى الإشكالية العلمية التي يدرسها ويحللها من منظور شخصي.
وفي المجال القانوني، يكون للبحث منطلق أساسي من البيانات بما يجعل لمرحلة بناء المعرفة أهمية استثنائية بالمقارنة مع باقي مجالات البحث.
فالمنطلق الذي يجب على الباحث القانوني في القانون الوضعي البدء منه يستند على القوانين الصادرة لتنظيم الإشكالية محل الدراسة، ولوائحها التنفيذية، وهو منطلق واسع؛ لأن دراسة هذه القوانين تستوجب دراسة أسباب التشريع والمناقشات التي جرت قبل إصداره، وصولا إلى مرحلة إصداره وتعديلاته، ثم تطبيق القضاء له، وأخيرا تفسير الفقه القانوني السابق لنصوص القانون وأبعاده.
بناء عليه، يؤثر الأساس الكمي الهائل من البيانات والمعلومات في آلية البحث القانوني، فالباحث الذي يواجه كمية هائلة من المعلومات واجبة الدراسة قبل حتى أن يبدأ بالمعالجة، هذا الباحث قد يصل إلى مرحلة التحليل متعبا ومتخما بالأفكار الأمر الذي يبدد طاقته، ويشتت ذهنه.
وهذا من أسباب انتشار الآلية الوصفية في المادة البحثية القانونية العربية؛ حيث نجد الباحث يقرأ القانون ويفهمه جيدا، ويعرف كيف يتم تطبيقه، ثم ينتهي إلى مجموعة من النتائج والتوصيات الواهية؛ والسبب يكون عدم قيام الباحث بالتحليل واكتفائه بالدراسة.
البحث القانوني الأسير والجامد وفاقد القيمة..
ثقافة الوصف وغياب التحليل
إذا استسلم الباحث القانوني في القانون الوضعي لفكرة الدراسة والوصف، تحولت أوراقه العلمية إلى مجرد مقدمات وتمهيد تاريخي وأفكار سطحية واقتباسات من المراجع ومسودات علمية؛ دون أية مبادرة أو تحليل شخصي، ومع غياب كلي لأي حل واقعي لإشكالية البحث.
أما الحديث عن ابتكار نظريات علمية جديدة؛ فالباحث يكون عاجزا عن مجرد التفكير بمثل هذا الطرح.
هذا الواقع السلبي والقاتم للبحث القانوني تحول على المستوى العربي للأسف إلى ثقافة طاغية؛ فالقليل النادر من الأبحاث القانونية العربية ما يستحق القراءة.
ولا يمكن إرجاع سبب هذا الواقع في صعوبة مرحلة الإعداد للبحث القانوني فقط، بل السبب هو دخول الكثير من الباحثين القانونيين العرب في سجن الوصف العلمي الذي يكتفي بمعالجة الأفكار السطحية كما هي دون أي تحليل شخصي أو ابتكار؛ الأمر الذي يقضي مع الوقت على أية إمكانيات إبداعية لدى الباحث.
وهكذا، تجد سيرة الباحث مليئة بالأوراق العلمية فاقدة القيمة التي لم يسمع عنها أحد، والتي لا تساوي قيمة الحبر المكتوبة فيها، ومع استشراء هذه الثقافة العلمية الوصفية، يصبح النشر العلمي واجب شكلي للحصول على إجازة نشر، والنتيجة ظهرت في ضعف أثر المخرجات البحثية.
هذا الواقع، يجب ألا يثبط همة الحركة البحثية القانونية في المملكة التي تسير في اتجاه استثنائي من حيث التشريع وهو ما يجب أن ينعكس على البحث القانوني.
ارتباط الحراك البحثي بالتشريع في المملكة..
منهج جديد أم تطور تراكمي؟
إذا كنا نتحدث عن تشريع خاضع لحكم الشريعة الإسلامية؛ فنحن نتحدث عن قواعد إدارية قانونية تفصيلية تحكم وقائع معينة لا تخالف نصوصها الحدود الشرعية الملزمة.
بالتالي، كان الفراغ قبل عصر التشريع يتمثل بالمسائل التفصيلية والمستحدثة؛ وكان يتم تعبئة هذا الفراغ من خلال تطبيق القواعد الفقهية ذات البعد التقديري الواسع للبت في المنازعات.
وهنا يأتي دور المواجهة البحثية لهذا الواقع التشريعي، فقد كان الباحث القانوني السعودي يركز على الجانب الشرعي بغرض توضيح أبعاد تطبيق القواعد الفقهية، وتحديد التسبيبات المستقرة للأحكام التي لا يوجد لها أنظمة تفصيلية.
فحتى بعد أن اختارت المملكة منهج التشريع، فقد تم تحديد القواعد الفقهية كمرجع في حالة الفراغ التشريعي. فعلى سبيل المثال، النظام الأهم الصادر في المملكة مؤخرا كان نظام المعاملات المدنية، الذي حدد قواعد ملزمة تشريعية مستقلة عن الشريعة بحيث يسبق النظام أحكام الشريعة بالتطبيق ولا تطبق الشريعة إلا بما يتسق مع النظام، لكن هذا النظام لم يلغ دور القواعد الفقهية الشرعية؛ لأن النظام حدد دورا احتياطيا لتطبيق القواعد الفقهية في حال الفراغ التشريعي.
وإذا رجعنا للباحث السعودي، نجده قد اكتسب خبرة تراكمية في مجال تفسير القواعد الفقهية، وتحديد القاعدة الأمثل لكل واقعة، وتحديد التسبيبات القضائية المرتبطة بهذه القواعد الفقهية بما يشكل إرث قانوني واسع.
لذا، يجب بناء البحث القانوني بالمملكة على هذا الإرث المتراكم من خلال منهج التطور التراكمي الذي يربط بين الأنظمة بقواعدها الجديدة الملزمة محاولا إخضاع الأنظمة للشريعة الإسلامية من جهة، وإظهار الدور الاحتياطي للقواعد الفقهية من جهة أخرى.
خطة الطريق نحو حراك بحثي حقيقي قانوني حقيقي..
بخصوص التشريعات الحديثة، فيجب أن ينطلق الباحث السعودي من منهج الابتكار، فلا يستكين للأبحاث الوصفية، بل يخوض غمار البحث العلمي بعمق وبمعالجة شخصية هادفا الوصول إلى أفضل النتائج البحثية الممكنة، متسلحا بمناهج البحث التحليلية النقدية المقارنة؛ التي ستقوده نحو أعلى الاستنتاجات والاستقراء أهمية، وأكثرها مساهمة في نجاح رؤى التنمية.
اليوم يوجد بالمملكة بعض المراكز البحثية القانونية المتخصصة كمركز الدراسات والبحوث القانونية التابع لهيئة الخبراء ومركز البحوث التابع لوزارة العدل وغيرها من المراكز، والتي تقدم العديد من المخرجات البحثية المتميزة، ولكن مازال هناك فرصة للتطوير.
مازال دور الجامعات السعودية غائب في هذا الحراك، لذلك يجب على الجهات الحكومية والجامعات على وجه الخصوص والهيئات العلمية الخاصة أن تدعم هدا الحراك البحثي من أجل المساهمة في تطوير ذهنية الباحث السعودي من خلال إطلاق العديد من المبادرات البحثية، وربطها بمستهدفات الرؤية.
ومن أهم التوصيات في هذا المجال:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال