الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحتل الأسواق الناشئة اليوم مكانة بارزة ومتنامية في خريطة الاقتصاد العالمي حيث تمثل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأكثر من ثلثي سكان العالم، وتجذب إليها الأنظار بفضل معدلات النمو الاقتصادية العالية ووفرة الموارد الطبيعية وانخفاض تكلفة العمالة الماهرة مقارنة بنظيرتها في الدول المتقدمة، ورغم تعرضها أحيانًا لتراجعات مقارنة بالأسواق المتقدمة، إلا أن النظرة المستقبلية لها تظل مشرقة لسبب أساسي: الإمكانات الهائلة للنمو والتطور على المدى الطويل. هذه النظرة قد يسودها أحياناً ضبابية المشهد في ظل نمو هذه الدول على صعيد السياسات العامة، وكثرة التشريعات والمتغيرات في الأسواق غير أن النمو الاقتصادي والمالي يخلق فرصًا جديدة وواسعة في مختلف القطاعات الاقتصادية، من الصناعة والتكنولوجيا إلى التجارة والخدمات مما يجذب رؤوس الأموال الخارجية إلى المشاريع، والأسواق المالية. بالإضافة إلى ذلك، يلعب اندماج الأسواق الناشئة المتزايد في الاقتصاد العالمي في ظل التوسع الرقمي دورًا كبيرًا في تعزيز مسيرتها التنموية. فمع الانفتاح على أسواق جديدة وموارد أوسع، تكتسب هذه الأسواق القدرة على توسيع نطاق أعمالها وتطوير منتجاتها وخدماتها مما يزيد من عمق وشمولية الأسواق المالية، الأمر الذي يعود بالفائدة على الشركات والمواطنين والمستثمرين على حد سواء.
ولعل أحد أبرز الأدلة على قوة الأسواق الناشئة هو تفوقها على السوق الأمريكية في فترات محددة، لاسيما عند خفض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة (رسم توضيحي 1)، ويعود هذا التفوق إلى مجموعة من العوامل: أهمها زيادة جاذبية الاستثمار في الأسواق الناشئة عندما تنخفض أسعار الفائدة الأمريكية (رسم توضيحي 2(، ما يؤدي إلى تدفق كبير لرأس المال الأجنبي إليها للوصول إلى عوائد أعلى في ظل انخفاض مخاطر الاقتراض نتيجة انخفاض نسبة الفائدة ووفرة السيولة. حيث أن أسعار الفائدة المنخفضة تحفز النمو الاقتصادي في الأسواق الناشئة بشكل أكبر من نظيرتها في الدول المتقدمة، وتشجع الاقتراض والاستثمار في مختلف القطاعات والذي يدعم النمو الاقتصادي والمالي، بالإضافة إلى ارتفاع قيمة عملات الأسواق الناشئة بسبب انخفاض قيمة الدولار الأمريكي، ما يعزز تنافسية صادراتها ويجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. الجدير بالذكر، أن الفترة الأخيرة شهدت وصول مستويات الأسواق الناشئة إلى أدنى مستوى لها خلال الـ 30 سنة الماضية مقارنة بنظيرتها الأمريكية بسبب ارتفاع الأخيرة نتيجة ارتفاع القطاعات الاستراتيجية كقطاع التقنية وقطاع أشباه الموصلات. هذا التراجع في أداء الأسواق الناشئة قد يكون مهيئً لعكس الاتجاه مع تغير دورة الاقتصاد ظل انخفاض التضخم في الولايات المتحدة وارتفاع احتمالية خفض نسبة الفائدة حسب تحاليل بيوت الخبرة.
ومن الأمثلة التاريخية على تفوق الأسواق الناشئة على السوق الأمريكية نذكر الفترات 1994-1996 و2002-2007 و2020-2021 والتي سبقها تخفيض في نسبة الفائدة الأمريكية لتحفيز الاقتصاد الأمريكي لعوامل مرتبطة بالاقتصاد الأمريكي (رسم توضيحي 3)، حيث حققت الأسواق الناشئة عوائد أعلى مقارنة بنظيرتها الأمريكية بمتوسطات تتراوح بين 10% و20% سنويًا. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل التحديات والمخاطر التي تواجه الأسواق الناشئة حيث تبرز هذه التحديات في التقلبات الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار الفائدة والتوترات الجيوسياسية وحوكمة الشركات، والتي يمكن أن تؤثر سلبًا على أداء هذه الأسواق كما حصل عبر تكرار أزمة الديون الأرجنتينية (1989، و2001، و2014، و2019)، والأزمة المالية في أسواق آسيا الناشئة (1997-1998) وتذبذب عملات هذه الدول والذي من شأنه تقليل عوائد هذه الأسواق بعد عكس سعر صرف الدولار الأمريكي.
وفي هذا السياق، يبرز السوق السعودي كمثال حقيقي على قدرة ونمو وتطور الأسواق الناشئة على تحقيق التفوق والتميز ومنافسة الأسوق المالية في الدول المتقدمة وجذب رؤوس الأموال. فقد حقق السوق السعودي بشكل عام أداءً أفضل من السوق الأمريكية (وبالخصوص في حال استثناء شركات التقنية الكبرى) منذ بداية الجائحة في عام 2020 إلى منتصف عام 2022، مدعومًا بعوامل منها تدفقات رأس المال الأجنبي والإصلاحات الاقتصادية وتنوع الاقتصاد السعودي بفضل برامج تفعيل برامج ومستهدفات رؤية 2030، غير أن السوق السعودي ابدى تأثراً على المدة القصير بارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية في أبريل 2022 (رسم توضيحي 4). وبالنظر إلى المدى المتوسط تاريخياً، تمكن السوق من تجاوز عقبة ارتفاع النسبة خلال الفترة بين 2016 و2020 بفضل الإصلاحات الاقتصادية والتشريعات والسياسات الداعمة لتطوير سوق المال.
تعمل هيئة السوق المالية على تطوير سوق رأس المال السعودي، مما يجعل السوق السعودي أكثر سهولة وجاذبية للمستثمرين الأجانب مما رفع من ملكية المستثمرين الأجانب في السنوات الماضية رغبة للوصول إلى عوائده النامية والمستقرة والقوية، كذلك توسعت خيارات ومنتجات التداول تزامنت مع إطلاق أدوات مالية جديدة في ظل تحسين معايير حوكمة الشركات. وبناء على ذلك، فإنه من المتوقع أن تؤدي هذه التطورات إلى زيادة السيولة وجذب المزيد من رؤوس الأموال إلى سوق الأوراق المالية. وبناء على المعطيات على الأرض في ظل نتائج الشركات السعودية الأخيرة والتي أظهرت متانة وتنوع في الأرباح فإن العام المقبل يحوي في طياته عدة عوامل إيجابية كاحتمالية تخفيض الفائدة الأمريكية وارتفاع قوة الانفاق في الميزانية السعودية لدعم الاقتصاد والنمو الاقتصادي الوطني حيث تقدم الميزانية الحالية خطة شاملة ومتطلعة إلى المستقبل تدعم النمو الاقتصادي وأهداف رؤية 2030 في المملكة عبر التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية: (1) تطوير البنية التحتية ، و (2) الاستثمار في القطاعات الرئيسية، و (3) دعم البرامج الاجتماعية. وهنا نشير إلى أن خلق التركيز على تطوير البنية التحتية في الميزانية العديد من الفرص لمشاركة القطاع الخاص من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص. ويمكن أن يؤدي هذا التعاون إلى تسريع تنفيذ المشاريع وجذب الاستثمارات الأجنبية سواء إلى المشاريع أو الأسواق المالية مما قد يحسن من كفاءة وفعالية وربحية مشاريع البنية التحتية والشركات.
وعلى الرغم من التحديات وتقلبات الأرباح في الأسواق الناشئة، إلا أن الأسواق الناشئة – وبالخصوص السوق السعودي – ستبقى بوابة نحو فرص غير محدودة. وبالخصوص في ظل ارتفاع التكهنات بتخفيض الفائدة ومع استمرار الجهود الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي والتحسينات في التشريعات والأنظمة، فإن هذه الأسواق ستواصل لعب دور محوري في رسم ملامح الاقتصاد العالمي في المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال