الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن المنظمات والهيئات والشركات بحاجة ماسة إلى المستشار المهني الأمين الشجاع الحاذق، صاحب الكياسة الذي يصل بالكيان القانوني إلى بر الأمان، وهو ما يقتضي احترافية عالية، وعلماً غزيراً، وأدباً جمّاً بفن الحوار، وتحملاً للمسؤولية، وقدرة على احتواء ضغوط العمل، وتأهباً للمخاطرة في إبداء استشارة صادقة متجردة من الأهواء والرغبات ومحاباة الرؤساء؛ قائمة على الوقائع والنص القانوني، والأصول المحاسبية والأدبية والتاريخية والهندسية والفنية والترجمية حسب الاختصاص الاستشاري، والتي قد لا تروق لمجلس إدارة أو رئيس المنظمة أو الشركة، والمستشارون الشجعان من هذا النوع بمقدورهم المحافظة على مصالح وهيبة الكيان القانوني الذي يمثلونه أو يقدمون له الرأي، وصيانة سمعتهم المهنية.
وعلى الرغم من أن الشخصية المذكورة في عنوان المقال كانت مثار جدل في بدايات حياتها بسبب ميل صاحبها للمجون، إلا أنه كان صادقاً نبيلاً في حضوره وإبداعه الشعري ورأيه، وهو الأمر الذي قد ألهمه وأعانه ربما على نظم قصيدة التوبة المشهورة في أواخر حياته، وهي القصيدة التي لا تزال أبياتها بمثابة آية أدبية في طلب الغفران.
إنه الشاعر العباسي الكبير أبو نواس الحسن بن هاني الذي كان جليس الخلفاء والأمراء في بلاط الخلافة العباسية، ورغم شهرته كشاعر ماجن إلا أنه كان أيضاً ذا ذائقة بديعة وشعر يتفتق جمالاً وعذوبة.
ولعل من أطرف وأجمل ما أثر عنه من إبداء للرأي والاستشارة بكل ذكاء وصدق موقفه مع الخليفة المأمون الذي ألقى قصيدة في مجلس له ثم سأل أبو نواس عن رأيه فيها، فكان جواب أبي نواس: “لا أشم فيها رائحة البلاغة”، فأمر المأمون بحبسه شهرا في حظيرة للحمير؛ ثم عاود أبو نواس بعد انقضاء عقوبته حضور مجلس الخليفة الذي ألقى قصيدة أخرى دفعت أبا نواس للخروج في منتصفها، فاستوقفه المأمون قائلاً: إلى أين؟، فرد أبو نواس: “إلى الحظيرة”؛ في كناية مؤدبة بأن قصيدة الخليفة الثانية دون مستوى المعايير الشعرية والبلاغية التي تليق بمقام الخليفة.
ولطالما سُردت هذه الحادثة في باب الطرائف، ولكنها في عمقها وجوهرها تعكس صدق ونبل وشجاعة أبي نواس في إبداء الرأي والاستشارة الشعرية الأدبية، والمخاطرة العالية في إغضاب الخليفة المأمون، وعدم مداهنته مع إظهار الأدب وانتقاء العبارة في تقديم الرأي والاستشارة.
وفي ظل حرص المنظمات والشركات ومكاتب إعداد الاستراتيجيات وإعادة الهيكلة على تعزيز قيم ومعايير الحوكمة؛ قد تعتبر شخصية المستشار أبي نواس ركناً من أركان وقيم الحوكمة غير المرئية التي قد يغفل عنها خبراء التوظيف ومعدو الإستراتيجيات.
وفي النهاية نختم بأبيات توبة أبي نواس التي ترددت وما تزال على مسامع الأجيال:
يا رب أن عظمت ذنوبي كثرةً * فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ * فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
أدعوك ربِ كما أمرت تضرعاً * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرجا * وجميل عفوك ثم أني مسلمُ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال