الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حسب خبراء اقتصاديون يعتبر هذا القرن، قرن رأس المال البشري بامتياز، على الرغم من كثرة الحديث عن اجتياح الذكاء الاصطناعي لمعظم المهن الموجودة حاليا. فإن دول العالم تتسابق على تنمية واستقطاب المهارات البشرية لتصبح ضمن دول المقدمة اقتصاديا. لذلك تعمل الدول المتقدمة وخصوصا اميركا وأوروبا على جذب اليد العاملة الماهرة من مختلف مناطق العالم، حتى أن اليابان فتحت سوق عملها جزئيا عام 2022، في حادثة قد تكون الأولى في تاريخها.
والمملكة العربية السعودية منذ بداية برامجها التنموية أواسط سبعينيات القرن الماضي، وهي تعتمد بشكل أساسي على اليد العاملة من الخارج، وقد زادت حاجتها لتلك اليد العاملة مع التوسع الكبير في التنمية ضمن برامج رؤية السعودية 2030. وقد تباينت مهارات العمالة التي قدمت للعمل في السعودية عبر الزمن، لكنها في المجمل بدأت قوية، ثم أخذت في التراجع، حتى أطلق على سوق العمل السعودي بـ (أضخم ورشة تدريب في العالم).
وسوق العمل السعودي مغري جدا للعمالة من دول آسيا والشرق الأوسط، لعدة عوامل، لكن من أهمها سهولة اشتراطات العمل وتدني المتطلبات في كثير من المهن.
الغريب في الأمر، أن الاشتراطات التي تطبق على السعودي الداخل لسوق العمل قوية وصارمة. في حين أنها متساهلة مع العمالة القادمة من الخارج. على سبيل المثال، لا تقبل أي جامعة سعودية بتوظيف أستاذ حاصل على شهاداته العليا عن بعد، في حين أن إحدى الجامعات السعودية كان يعمل لديها أستاذ من جنسية عربية حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه عن بعد.
وفي حوادث متكررة تنشر وسائل الإعلام من وقت لأخر حالات اكتشاف طبيب أو ممارس صحي يعمل في منشأة صحية بدون شهادة علمية، فضلا عن الشهادة المهنية.
المثالان السابقان عن قطاعين في سوق العمل السعودي يعتبران الأكثر تنظيما ومراقبة من قبل الجهات المختصة. فما بالنا بالمهن التي لم تنظم بعد، وتكاد تكون الرقابة عليها معدومة؟
منذ سنين ونحن نسمع عن الاختبار المهني للقادمين للعمل في السعودية، لكن التطبيق إما معدوم أو ضعيف أو متأخر جدا.
تكلفة العمالة غير الماهرة على الاقتصاد السعودي باهظة جدا، تبدأ من الأرواح والصحة، مرورا بالجودة والوقت والاستدامة والجمال وانتهاء بالمال.
ومن التكاليف غير المشاهدة والتي تنهك الاقتصاد السعودي على نحو مستمر، بطء تكون الخبرات والمهارات العالية، بل قد تتكون خبرات سلبية وضارة. ولهذا الجانب السلبي للعمالة غير الماهرة، دور جوهري في جمود سوق العمل وبقاءه على المهارات والمعارف القديمة، وعدم تطوره من الداخل، وأي تطورات في خبرات ومهارات السوق غالبا ما تكون خارجية، بدخول شركات عالمية، ممن يحضرون عمالتهم معهم كالشركات الصينية.
وتأتي بطالة السعوديين علي ذروة سنام التكاليف التي يتحملها الاقتصاد السعودي، بسيطرة العمالة غير الماهرة على سوق العمل. فهي من جانب تحتل كثير من المهن، ومن جانب آخر تعلم على خفض الأجور بدرجة طاردة للسعوديين و للعمالة الماهرة من جنسيات أخرى.
أما أسباب استمرار هيمنة العمالة غير الماهرة على سوق العمل السعودي، فيرجع لعدة عوامل من أهمها: أولا عدم وجود، أو ضعف القوانين التي تنظم كثير من المهن. على سبيل المثال بالأمس القريب فقط فرضت الجهات المسؤولة اشتراطات على المهن الهندسية من ضمنها إختبار الكفاءة المهنية. أما المهن التي دونها فلا يوجد لها تنظيم واضح، وإن وجد فبسيط، وغير مطبق.
والسبب الثاني يعود للمستثمرين السعوديين الذي يفضلون العمالة الوافدة منخفضة الأجور، متجاهلين كل المزايا للعمالة الماهرة. والأجور المنخفضة ترتبط عادة بانخفاض المهارة. وكون العمالة غير الماهرة مسيطرة منذ وقت طويل، فقد تحكمت في الداخلين لسوق العمل سواء بشكل مباشر عن طريق التوظيف، أو بشكل غير مباشر. وهذا كرس وجود تلك العمالة غير الماهرة.
أخيرا لضعف العمل المؤسسي الحقيقي، واستمرار فوضى العمالة شبه السائبة خصوصا في القطاعات المرتبطة بالمجتمع مثل البناء، صيانة السيارات، صيانة المنازل، وغيرها من المهن. وهو نتيجة مباشرة لضعف تنظيم تلك الأسواق من حيث متطلبات العمل المهني، وضعف الرقابة. وزيارة واحدة لأي من المناطق الصناعية، أو محال مواد البناء في أي مدينة سعودية، وخصوصا الكبيرة منها، يظهر جليا حجم الفوضى في السوق. وأن العمل في تلك الأسواق متاح لكل من هب ودب دون حسيب ولا رقيب.
والأرقام التي تعلنها الجهات الأمنية أسبوعيا عن قبضها على أعداد كبيرة جدا من العمالة المخالفة لأنظمة العمل وأمن الحدود، والتي لا تقل عن 14 ألف أسبوعيا، لهو دليل صريح على الفوضى في سوق العمل.
ففي قطاع صيانة السيارات على سبيل المثال يوجد عمالة من جنسية عربية بأعداد كبيرة، لا تتجاوز أعمارهم العشرين سنة يفتون في مشاكل السيارات الحديثة دون خبرة مسبقة، ودون أدوات مساعدة، ولديهم جرأة عجيبة في محاولة عمل أي صيانة لأي سيارة. الأمر نفسه ينطبق على كثير من المهن المرتبطة بالمجتمع، وإن من جنسيات أخرى.
ولا صلاح السوق يجب فرض اشتراطات الشهادات المتخصصة والرخص المهنية في معظم قطاعات، وتنظيمه بحيث يصبح مؤسسيا لا فرديا، وتحديدا للعمالة الوافدة، وتكثيف الرقابة على العاملين في السوق. وهذا التنظيم أصبح ضرورة ملحة لم تعد تحتمل التأخير. وذلك سيرفع من كفاءة سوق العمل السعودي بما يتوافق مع رؤية السعودية 2030، ويحمي المجتمع والاقتصاد من سيطرة العمالة غير الماهرة، وآثارها المدمرة على الاقتصاد والمجتمع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال