الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهد الاقتصاد الأمريكيّ بين عامي 1897 – 2010 فتراتٍ انتشرت فيها صفقات الاندماج والاستحواذ التي تُعرَف اختصارًا بـ (M&A)، ويمكن حصرها في خمس فترات أو موجات. عمومًا، تختلف جذور وأسباب دخول الشركات في صفقات (M&A)، فمنها ما قد يرجع إلى الرغبة في إنشاء كيانات مسيطرة، ومنها ما يسعى إلى الحصول على خصومات ضريبيّة، وتقليل الخسائر، ورفع الكفاءة التشغيليّة، وتخفيض التكلفة عبر دمج شركتين أفقيًّا، وغيرها من الأسباب التي يصعب حصرها هنا. ولكنّ السؤال المهمّ هو: هل يمكن ربط هدف الشركة بالاندماج أو الاستحواذ بأسبابٍ خارجيّةٍ (أي ربط قرار الشركة بالاندماج بالمناخ الاقتصاديّ مثلًا)؟
يحقّ للقارئ أن يتساءل: هل من السهل تحديد أسباب صفقات (M&A) على نحو دقيق؟ تاريخيًّا، كان من الصعب تحديد العلاقة المباشرة بين المؤثِّرات/العوامل الخارجيّة (مثل: الوضع الاقتصاديّ العامّ للدولة، ارتفاع التضخّم، انخفاض تكلفة التمويل كما حصل مع junk bonds… إلخ) وقرار الشركات الدخولَ في اندماجٍ أو قبول مستحوذٍ. ولكن حديثًا، وبسبب غزارة الأرقام والبيانات والتطوّر الكبير في المقاييس الإحصائيّة، وخاصّةً ما يسمّى الانحدارَ الخطّيّ regression، عُزِّزَت إمكانيّة الربط بين الكثير من الأحداث والعلاقات الاقتصاديّة. بمعنى آخر، أسهم التطوّر الرقمي في معرفتنا بكيفية ارتباط قرار صفقة (M&A) بعوامل خارجيّة.
وأكثر ما يهمّنا هنا هو الربط بين الموجة الرابعة والمناخ الاقتصاديّ الذي مرّ به الاقتصاد الأمريكيّ في مرحلة الثمانينيّات؛ للتشابه الكبير بينه وبين ما تواجهه الشركات السعوديّة اليوم في كثير من القطاعات، مثل التأمين والإسمنت وغيرها من القطاعات الحيويّة. ومن دون مبالغة، يشهد الاقتصاد السعوديّ أكبر مرحلة تحوّل اقتصاديّة في تاريخه، نحو اقتصاد أكثر استقرارًا ونموًّا في إطار رؤية 2030، الأمر الذي يتضمّن تحدّيات كبيرة لكثير من الشركات السعوديّة التي اعتادت على مناخ أقلّ منافسةً، أو مناخ تسوده معونات حكوميّة ربّما أسهمت في كفاءة تشغيليّة أقل أو أضعفت المنافسة في إطار موارد ماليّة محدودة.
يشابه هذا المناخ إلى حدّ كبير ما واجهته الشركات الأمريكيّة في فترة الثمانينيّات، ولهذا كان الدخول في صفقات (M&A)، وخاصّةً بالنسبة إلى الشركات العاملة في القطاع نفسه، مخرجاً لمجالس تلك الشركات.
من هنا يأتي التساؤل التالي: هل سنشهد أكبر موجة (M&A) على المستوى الاقتصاديّ السعوديّ لمواجهة التغيّرات في البنية الاقتصاديّة السعوديّة (أو “الصدمات” كما يحبّ الاقتصاديّون تسميتها) مشابهةً لما مرّ به الاقتصاد الأمريكيّ في عدد من القطاعات المهمّة، مثل الطيران، والغذاء، والدواء، خلال الثمانينيّات في فترة حكم الرئيس ريغان مدعومًا بمباركة الرجل العجوز الداهية “ميلتون فريدمان”، أم ستقف الشركات السعوديّة ومن يقف خلفها مدفوعين بدوافع شخصيّة ضدّ الدخول في مثل هذه الاتّحادات وإعادة الهيكليّة الداخليّة في القطاع نفسه؟
تعرّضت الشركات الأمريكيّة في فترة الثمانينيّات لعدد من الصدمات، مثل التغيّرات القانونيّة، والتحرّر الاقتصاديّ Deregulation، وفتح الاقتصاد الأمريكيّ أمام الاستثمار الأجنبيّ مباشرةً؛ ممّا رفع المنافسة أمام الشركات المحلّيّة الأمريكيّة، فضلاً عن تداعيات أزمة النفط التي أسهمت في ارتفاع التكلفة التشغيليّة input.
ولا ننسى قلّة الطلب التي شهدتها هذه المرحلة؛ لضعف قوة المواطن الأمريكيّ الشرائيّة، ممّا جعل الشركات أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إغلاق الأبواب والخروج من السوق، وإما التكيّف عبر البحث عن وسائل لمواجهة هذه التحدّيات الهيكليّة عبر رفع كفاءتها التشغيليّة. وكمبدأ اقتصادي، يجب أن تكون تكلفة أي خيار تتّخذه الشركة أقل من العائد المتوقَّع منه. وهنا كانت الموجة الرابعة، إذ شهد الاقتصاد الأمريكيّ موجة M&A)) مدفوعة بالتحوّلات الهيكليّة في الاقتصاد الأمريكيّ.
ويأخذنا الحديث هنا إلى الاقتصاد السعوديّ الذي يشهد فيه عدد من شركات القطاع الواحد ضغطًا بسبب الإصلاحات الاقتصاديّة ورفع الدعم الحكوميّ تدريجيًّا، والتباطؤ في المبيعات، والمنافسة غير المسبوقة؛ الأمر الذي ترك أثره الكبير في تراجع هوامش ربح هذه الشركات وتزحزحِ حصصها السوقيّة، فضلًا عن الارتفاعات في تكلفة التمويل في ظلّ ارتفاع الفائدة. ويأتي على رأس هذه القائمة عدد من القطاعات، أشهرها شركات الإسمنت، والنقل، وغيرها من القطاعات المتأثّرة بأسعار الطاقة فضلاً عن تداعيات كورونا والتضخم.
على هذه الشركات السعودية ومن يقف خلفها من مجالس إدارات ومساهمين التفكيرُ مليًّا فيما تحمله هذه التحوّلات الهيكليّة في البنية التحتيّة الاقتصاديّة السعوديّة، والبحثُ عن حلول حقيقيّة لمواجهة هذه التحوّلات. ربّما يوفّر الدخول في صفقات اندماج واستحواذات مع شركات في القطاع نفسه حلًّا لهذه الشركات. ومن هنا، نعود إلى سؤالنا: هل سيشهد السوق السعوديّ أكبر موجة استحواذات واندماجات بين الشركات السعوديّة كما حصل في الاقتصاد الأمريكيّ في مرحلة الثمانينيّات، أم ستحجب الدوافع الشخصيّة لمن يقف خلف هذه الشركات الرؤية وصولًا إلى الموت والخروج من السوق؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال