الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
منهجية التحول الرقمي وحساسية المنظومة العدلية
الإشكالية الأساسية التي تواجه أية عملية تحول في المنظومة العدلية هي في أثر هذا التحول على حقوق الناس؛ فالعدالة تتطلب التدقيق والتمحيص والمراجعة حرصا على حقوق المتقاضين وحقوق الغير المتأثرين بعملية التقاضي.
فكيف يمكن لعملية تحول جذري تقني أن تضمن المحافظة على استقرار الحقوق وجودة معالجة الملفات القضائية والحرص على حقوق الناس المتأثرين بالإجراءات العدلية بوجه عام؟
الحقيقة، هذا التساؤل يشكل تحد حقيقي لكنه ليس عقبة فعلية أمام التحول الرقمي للمنظومة العدلية؛ والسبب أن القضاء الالكتروني يحمل معه حلولا مذهلة لمهام كانت هائلة الصعوبة إذا تم تنفيذها يدويا أو ورقيا؛ مثل البحث عن البيانات أو المستندات وحفظها في مستودعات ضخمة وغيرها من الأمور التي أصبح من البديهي القول بضرورة تحولها إلكترونيا.
لكن يبقى باب النقاش مفتوحاً فيما يخص أثر التحول الرقمي على السرعة في إجراءات التقاضي، أو مدى موثوقية بعض البدائل الإلكترونية للحلول محل التوقيع الورقي التقليدي، أو حتى قدرة المنظومة التقنية على حفظ خصوصية البيانات وحمايتها من الاختراق العابر للقارات من خلال الشبكات الإلكترونية.
في هذه النقطة، تظهر حساسية القطاع العدلي على حقوق الناس ومصائرهم كنوع من الدوافع الأساسية للتمهل في إجراء التحول نحو البيئة العدلية التقنية بالكامل؛ ليس بسبب عدم القدرة، بل بسبب عدم الثقة.
وهنا يمكن للدول أن تستخدم مستويات التحول في تسخير التقنيات بالمستوى الذي تستطيع بالمقابل أن تحمي فيه البيانات وتحرص على الحقوق.
مستويات التحول الرقمي في مجال العدالة
يمكن تقسيم هذه المستويات كالتالي:
(1) المستوى التقني الموازي؛ حيث يكون العمل بأكمله تقليديا ورقيا لكن تطلب المحاكم والجهات العدلية إلى جانب المستند الورقي مستندا موازيا إلكترونيا؛ وذلك بغاية تسهيل مهمة الأرشفة الإلكترونية وحفظ الملفات ذات الأهمية من التلف.
كما يمكن أن يشمل المستوى الموازي تنفيذ التبليغات عبر الوسائل التقنية أو العادية، دون حصرها في أسلوب معين. يضمن هذا الأسلوب استغلال بعض ابتكارات التكنولوجيا، لكنه لا يمثل تحولا فعليا نحو العدالة التقنية، بل هو عبارة عن تطوير محدود وهامشي لبيئة العمل كنا نراه بصفة خاصة مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة.
(2) المستوى التقني الأساسي؛ وهو يعني استبدال كافة الإجراءات التقليدية الورقية بإجراءات إلكترونية مع الإبقاء على المحاكم والدوائر العدلية في مكانها تحت إدارة كادرها لكن عند بعد، وهو ما يسمى:“e- Filing and Managing System”، وهو النظام المطبق في المملكة المتحدة والولايات المتحدة و ماليزيا. فالمستوى هذا يؤدي إلى تغيير جذري وأساسي بالمنظومة العدلية بحيث يتم التحول إلى الصورة الالكترونية الكاملة في تعبئة المستندات العدلية وإدارتها بالاعتماد الكامل على التقنيات مع إلغاء طريقة العمل الورقة السابقة. تضمن الدول عبر هذا الأسلوب بقاء المنظومة العدلية السابقة ذات الموثوقية العالية، مع تحقيق تحول جذري بآلية عملها وأدواتها؛ لكن التحول يبقى في إطار هيكل العمل السابق دون تغيير في الهيكل لكن مع تغيير في الأدوات والهيكل والإجراءات.
ونستطيع تصنيف المملكة ضمن هذا المستوى، حيث بقي الكادر القضائي وغرف المحاكم والدوائر العدلية، لكن أصبحت الإجراءات إلكترونية بشكل أساسي من خلال منصة “ناجز” التي جعلت الخدمات العدلية إلكترونية بالكامل؛ الأمر الذي سهل من إجراءات التقاضي وأنهى مشكلات الازدحام في المحاكم ودوائر الوكالات، وشكل نقلة نوعية في المنظومة العدلية السعودية حتى أصبحت المملكة المثال الأبرز في دول الشرق الأوسط في التحول نحو تسخير التكنولوجيا الرقمية بخدمة المنظومة العدلية.
(3) المستوى التقني المركزي؛ وهو أعلى مستوى تقني ممكن حتى اليوم، حيث يتم التحول من التقاضي الإلكتروني إلى الإدارة التقنية الشاملة لعملية التقاضي دون الاعتماد على الكادر التقليدي للمنظومة العدلية السابقة، بل بالاعتماد أنظمة جديدة تخفض من تدخل البشري إلى أقل درجة ممكنة وهو ما يسمى:“Full Case-Centric Litigate”، وتدعي سنغافورة أن إجراءات القضاء لديها قد اعتمدت هذا النظام. هذا النظام ينقل المنظومة العدلية نحو فضاء آخر تماما، بحيث يتم إدارة المحاكم من خلال منظومة إلكترونية مركزية عن بعد، بحيث تستغني عن كادرها القديم، وتقلل من التدخل البشري.
المستوى المذهل لقبول التحول الرقمي في القطاع العدلي السعودي
إذا كان التحول الرقمي في المملكة قد اعتمد نظام التحول الأساسي الكامل، فإن واقع المنظومة العدلية السعودية بات يشير إلى تحول أكبر؛ ألا وهو المستوى المذهل لهذا التحول الرقمي على المستوى الشعبي والمهني.
فالتحول التقني يواجه في الكثير من البلدان تحديات اجتماعية ومهنية تتمثل في رفض الانتقال إلى البيئة الإلكترونية لأسباب عديدة، منها عدم الرغبة بالخوض في ابتكارات التكنولوجيا، أو عدم الثقة بها، أو عدم وجود بيئة تشريعية تمنح هذه الابتكارات الاعتراف القانوني، وغيرها من الأسباب الجوهرية.
لكن هذه الأسباب تجاوزها المجتمع السعودي على المستويين الشعبي والمهني؛ حيث نجد أن ثقافة الإجراءات الإلكترونية أصبحت طاغية حتى على أجيال المجتمع السابقة التي لم تعايش الثورة التكنولوجية إلا في آخر عمرها.
هذا الواقع الإيجابي يشجع على التفكير بالتحول نحو نظام الكتروني مركزي مع تسخير للتكنولوجيا فائقة السرعة والتقدم في إصدار منظومة عدلية متقدمة إلى أقصى مستوى ممكن.
هل يعزز التحول الرقمي العدالة حقا في المملكة؟
الحقيقة، قد توجد بعض السلبيات التي رافقت التحول التقني في المنظومة العدلية السعودية، ومن أهمها صعوبة التواصل المباشر بين القضاة والمتقاضين ما بعد الجلسات القضائية، وعدم وجود تحديد دقيق لصلاحيات الكادر الإداري المساعد للقضاة في تقديم الدعم الموضوعي والتقني.
لكن كل هذه السلبيات يمكن معالجتها عبر تكريس إجراءات تقاضي أكثر انفتاحا بين أطراف العملية القضائية؛ بحيث يكون من واجب القضاء الاستجابة للملحوظات، إضافة إلى تطوير منظومة الرقابة والتفتيش القضائي حتى تواكب التطور في المنظومة العدلية التقنية.
ما هي الرؤية المثالية المستقبلية للتحول الرقمي للمنظومة العدلية ؟
نعود للقول مرة أخرى، بأن التحول التقني بحد ذاته لا يشكل الطموح الأسمى في المنظومة العدلية، بل إن ذاك الطموح الأسمى هو العدالة بمفهومها الواسع الذي يجعل أطراف أية دعوى راضين عن الإجراءات مهما كانت صيغة الحكم.
بناء عليه، فإن التمهل في تطوير المنظومة العدلية ليس بقرار سلبي ولا تجميدا لعملية التحول ولا فشلا فيه، ذلك إذا كان التمهل بهدف المحافظة على العدالة في ظل عدم الثقة الكاملة بالمنتجات فائقة الحداثة للتكنولوجيا، أو في ظل عدم توفر كوادر فنية وعدلية قادرة على إدارة العمليات القضائية وفق التصور المتقدم تقنيا.
لذا يجب دائما وضع ميزان العدالة في أولوية أعلى من تحقيق هدف مواكبة التقنيات الحديثة؛ بما يجعل عملية التحول التقني طريقا للوصول إلى العدالة وليس غاية بحد ذاتها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال