الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هل نحن على مشارف نهاية عصر العمالة الرخيصة؟ يبدو أن هذا لم يعد سؤالا يطرح، بل واقع يعيشه العالم كله، والاقتصاد السعودي يعيش السنوات الأخيرة لعصر العمالة الرخيصة.
فقد تمتع سوق العمل على مدى عقود بميزة العمالة الرخيصة، فعلى الرغم من بعض جوانبها السلبية، إلا أن تلك الميزة كانت محفزا مهما لبدء الاعمال واستمرارها. وكان لها أثرا في نمو الاقتصاد حتى في الاوقات الصعبة. لكن يبدو أن هذه الميزة تقترب من نهايتها، ليس بالنسبة للاقتصاد السعودي فحسب بل للاقتصاد العالمي بأكمله.
بالنسبة لسوق العمل السعودي تنقسم الأسباب التي عملت وتعمل على إنهاء عصر العمالة الرخيصة إلى مستويين. المستوى الداخلي الخاص بالاقتصاد السعودي، والمستوى الخارجي الذي سيشمل الاقتصادات العالمية، وتحديدا المتقدمة.
بالنسبة للمستوى الأول، الأسباب التي أدت إلى إرتفاع تكلفة العمالة، بدأت مع تطبيق خطط رؤية السعودية 2030، حيث كان تطوير سوق العمل وتحسين أداءه ضمن أهم برامج الرؤية. ومن تلك الأسباب على سبيل الإجمال: أولا العمل على خفض البطالة بين السعوديين من خلال برامج (السعودة) أو (التوطين). ومن القرارات التي طبقت في هذا الجانب، فرض نسبة من السعوديين في كل مؤسسة حسب حجمها، وفرض حد أدنى لأجور السعوديين، وفرض رسوم على العمالة الوافدة على مستويات مختلفة، ومع قرب انتهاء مدة إعفاء المنشآت التي عدد عمالتها 9 عمال فأقل من كامل مبلغ الرسوم 9600 ريال، سيصبح لهذا العامل أكثر كبير جدا. ثانيا رفع شروط التوظيف في المهن المتخصصة، سواء للعامل المحلي أو الوافد، وذلك لرفع كفاءة سوق العمل وجودة خدمته. أخيرا مشاريع رؤية السعودية الرائدة (نيوم، البحر الأحمر، القدية، وغيرها) فرضت مستوى عالي جدا من متطلبات العمل، وبالتالي العمالة. لذلك لم يكن أمام الراغبين في المشاركة في مشاريع الرؤية من خيار سوى رفع جودة العمالة التي يتعاقدون معها، وذلك يعني رفع تكلفة العمالة، ليس على مستوى مشاريع الرؤية فقط، بل على مستوى سوق العمل بأكمله.
المستوى الثاني الذي بدأ يؤثر على سوق العمل العالمي، وسيؤثر على سوق العمل السعودي قريبا، ذلك هو أثر التقنية الحديثة . ففي أحدث دراسة عن تأثير التقنية على الوظائف، وتحديدا الذكاء الاصطناعي، أظهرت أن أكثر من 23٪ من الوظائف الموجودة اليوم سوف تختفي، كما ستتقلص 50٪ من الوظائف الأخرى بما لا يقل عن 40٪ من أعدادها. وهذا يعني أن معظم المهن منخفضة المهارة سوف تختفى، وستحل محلها التقنية. وعلى الجانب الأخر من المشهد، سوف تخلق التقنية الحديثة مهن جديدة لم تكن موجودة من قبل، وتلك المهن الجديدة ستكون عالية المهارة، عالية التكلفة. ما يعني أن الشركات التي ترغب في البقاء في السوق عليها أن تواكب متطلبات المنافسة، في جودة العمل، من خلال تبني التقنية الحديثة من جانب ، ورفع كفاءة العمالة من جانب أخر. وهو ما يعني رفع تكلفة العمالة من خلال استقطاب المهارات العالية، وتدريب العمالة التي لديها لتواكب متطلبات المهن الحديثة المرتبطة بها (الذكاء الاصطناعي، الابتكارات الحديثة، المهن الخضراء، كفاءة الطاقة، المهن الاجتماعية عالية الكفاءة، وغيرها).
وما يجعل مواكبة أسواق العمل العالمية أمر لا مفر منه، هو المنافسة العالمية الشرسة. على سبيل المثال تعمل المملكة العربية السعودية على أن تكون من قمم العالم في الذكاء الاصطناعي، والصناعات الحديثة مثل صناعة أشباه الموصلات، وهذا لن يتم بدون مواهب ومهارات وخبرات عمل عالية. وارتفاع أجور ومزايا قطاع ما يجذب إليه المواهب والخبرات، ويدفع بقية قطاعات الاقتصاد الأخرى إلى رفع أجورهم ومزاياهم من جانب أخر، للحفاظ على تلك المواهب والخبرات.
وفي هذا الجانب تبرز مشكلة عالمية، هي ندرة العمالة الماهرة المتخصصة في مجالات التقنية الحديثة، والخدمات الاجتماعية عالية المهارة كالطب، والتمريض، والتعليم الحديث، وخدمات الرعاية الإنسانية الأخرى. وهو ما يرفع تكلفة تلك العمالة بصورة كبيرة.
كما أن المنافسة العالمية في سوق العمل لا تقل شراسة عن المنافسة في الصناعات والخدمات. فأسواق العمل العالمية تعمل بكل قوة على استقطاب العمالة الماهرة من كل مكان، حيث تقدم الدول مزايا كبيرة لجذب المواهب العالمية، وهو ما تعمل عليه السعودية، وهذا التنافس العالمي يرفع تكلفة تلك العمالة على نحو مستمر.
والشركات التي لا تستطيع تحمل تكلفة العمالة المرتفعة باستمرار سوف تغادر السوق، أو على أقل تقدير سوف تتراجع حصتها فيه بدرجة عالية. وهنا يبرز عامل أخر ومهم في رفع تكلفة العمالة غير الرواتب والأجور، حيث لم تعد العنصر الأهم في إغراء العمالة بقبول عقد عمل أو البقاء في العمل، بل هناك أمور أخرى مثل قوة التأمين الصحي، والبدلات والحوافز، والخدمات الأخرى مثل تذاكر السفر السنوية، وحتى بيئة العمل وغيرها.
ومن العوامل الخارجية المهمة جدا، الفرص التي خلقها الانترنت في العمل عن بعد في كثير من المهن التقنية، والاستشارية، والمالية، والتعليمية وغيرها. ما جعل إغراء كثير من المتخصصين بالعودة للعمل في المكاتب صعبا ومكلفا. ففي مقابلات تلفزيونية مع أشخاص (في اميركا) حول هذا الموضوع، أكد عدد كبير منهم رغبتهم في العمل لحسابهم من المنزل، وبعضهم ذكر أن دخولهم ارتفعت بشكل كبير لم يكونوا يتوقعونه، لذلك لا رغبة لهم في العمل مع أي شركة مهما كان الأجر والمزايا الأخرى.
أما أخر العوامل الخارجية التي رفعت تكلفة العمالة عالميا فهو التضخم العالمي المستعصي على الانخفاض، ومن غير المتوقع أن تتراجع تكلفة العمالة بعد تراجع التضخم، للأسباب السابقة، ولأسباب اقتصادية أخرى.
السؤال، هل سيصبح العامل السعودي أكثر إغراء للقطاع الخاص من العامل الوافد؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال