الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إذا أردنا تعريف معنى الحوكمة، سنجدها مصطلحا عاما جدا، فهي تعني الإدارة الرشيدة، ليس بمفهوم سطحي بل بأعمق مفهوم هيكلي وتطويري وتغييري ممكن، يقوم على أساس تطوير منظومة العمل الإداري؛ بما يراعي تسلسل السلطات فيها، ودرجة تركز القرار الإداري، ومرونة إصدار القرارات، وذلك بعد دراسة معطيات القرار وتطبيقه بأسرع وقت ممكن من إدارة متخصصة تخضع لرقابة ومحاسبة على مبدأ الثواب والعقاب.
هذا المفهوم الإداري يشكل نقلة نوعية في عقلية إدارة المنشآت، حتى بات تقييم شركات المساهمة مثلاً، وتحديد قدرتها على الإدراج يتم على أساس مستوى حوكمتها.
وقد انتشر مفهوم الحوكمة كقرين للنجاح في مجالات مختلفة من النشاطات والقطاعات التي كانت تعاني من الروتين أو بطء أو ضعف الإنتاجية؛ مثل حوكمة القطاع العام والمؤسسات الحكومية.
وعليه، فقد ترسخت مبادئ أساسية للحوكمة، يمكن قياس أداء المؤسسات من خلالها؛ مثل الشفافية والإفصاح تجاه الجمهور، والمساءلة والنزاهة، وصولا إلى الاستدامة.
لكن كيف يمكن توسيع نطاق تطبيق الحوكمة إلى مجال إعداد التشريعات وصياغتها؟ فهل يمكن أن يتم حوكمة نشاط تشريعي وليس إداري؟
الحوكمة التشريعية..
لا يقتصر النظر إلى الحوكمة على أنها مفهوم إداري، بل يتوسع المعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم حتى يشمل حوكمة جميع العمليات التي تقوم على تنظيم العملية التشريعية، لذلك إذا حاولنا إسقاط مفهوم الحوكمة على العملية التشريعية، يمكننا تحديد محورَيْن للحوكمة التشريعية، كالتالي:
أولاً: الجودة في إدارة عملية إعداد وصياغة التشريع
وهنا يمكن إسقاط فكرة الحوكمة على إدارة العملية التشريعية من حيث استكشاف مشاكل الواقع، وتحديد الثغرات التشريعية أو العيوب في الأنظمة القائمة.
وبعدها إعداد مشاريع القوانين الكفيلة بسد الثغرات وإصلاح العيوب، وتوفير الوقت والبيئة والمناسبة لمناقشة هذه المشاريع، وسماع الآراء حولها، وتعديل المشاريع وصولا إلى الصيغة المثالية لها.
ثم تحديد المساحة التقديرية المتروكة للسلطة التنفيذية حتى تصدر لوائحها التنفيذية التي تفصل وتكمل قواعد القانون.
وفي النهاية، مراقبة تطبيق القانون، وإعادة الدورة التشريعية باستكشاف ثغرات وعيوب القانون الصادر، تمهيدا لقانون جديد، وهكذا يتم تطوير العملية التشريعية بأكملها.
كل ما سبق هو عملية إدارية هادفة إلى التشريع، والتي يجب حوكمتها عبر تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة، والحرص على معايير الجودة في إصدار التشريع بعد تمحيص قواعده وتصميمها بالشكل الأمثل؛ بغرض ملء الفراغ التشريعي أو تعديل العيوب في القوانين القائمة.
بناء عليه، فإن حوكمة عملية إصدار التشريع هي عبارة عن عملية تقييم، ثم تطوير لجودة إدارة إجراءات إصدار القانون، ابتداء من استكشاف الحاجة إليه، مرورا بمناقشات إصداره، وانتهاء بتقييم تطبيقه، ومدى الحاجة إلى تعديله أو إصدار قانون جديد.
ثانيًا: العدالة في التشريع
نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك في توسيع تطبيق الحوكمة على العملية التشريعية، ليس من حيث إدارة إجراءاتها وتقييم نجاحها، بل من حيث الارتقاء بعدالة القانون الناتج عنها، وتقييم حوكمتها على هذا الأساس.
فالحوكمة مرتبطة بالإدارة الرشيدة بهدف تحقيق أعلى معايير الجودة الإدارية، بينما حوكمة إصدار التشريع تهدف إلى الخروج بأفضل صيغة لقواعد القانون بغرض تحقيق العدالة.
إذا كنا نتحدث عن الحوكمة التشريعية، فهذا لا يقتصر على جودة إدارة العمليات التشريعية التي تحكم الجهات الحكومية فقط، ولا عدالة القوانين الإدارية الناتجة عن هذه العلمية فقط؛ بل إن الحوكمة التشريعية يجب أن يتم قراءتها بأوسع وأشمل نطاق، بما يستغرق جميع التشريعات التي تغطي القانون العام والخاص.
فالجودة في العملية التشريعية، والعدالة في المنتج التشريعي؛ يجب أن يتم تحقيقها في جميع القوانين سواء تلك التي تحكم مؤسسات الدولة، أو التي تحكم تعاملات الأفراد والشركات.
معايير قياس مستوى الحوكمة التشريعية
نتيجة لكل ما سبق، وبغرض تحديد مستوى فاعلية الحوكمة التشريعية في المملكة، يمكننا اقتراح مجموعة المعايير التقييمية التالية:
(1) معيار حوكمة مرونة الإجراءات التشريعية: ويمكن تحديد هذا المعيار عبر مقارنة سرعة عملية إصدار التشريع المقترح، بسرعة الحاجة إليه؛ وذلك بالنظر إلى وجود فراغ تشريعي أو عيب في التشريع القائم.
(2) معيار حوكمة جودة المناقشات التشريعية: وذلك عبر مقارنة التعقيد والدقة والجدل في التشريع المقترح، مع المناقشات الثرية والتعديلات الفعلية على مشروع التشريع قبل إصداره.
(3) معيار حوكمة العدالة التشريعية: وهي تتم عبر قياس مدى تحقيق التشريع المقترح لرضى جميع الأطراف المخاطبين والملتزمين بأحكامه، وتسهيل وصولهم إلى حقوقهم، وعدم إهدار أية حقوق لأسباب موضوعية أو شكلية غير منطقية.
(4) معيار حوكمة الدورة التشريعية: وهو المعيار النهائي الذي يقيس مدى فعالية الإطار التنظيمي الحاكم لعملية إعداد التشريع المقترح، ويشمل ذلك جميع مراحل العملية التشريعية والتي تنتهي بإصدار تشريع جديد أو التعديل على تشريع قائم، ومن ثم قياس وتقييم الأثر التشريعي اللاحق.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال