الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عصر يتسم بالتغيرات المتسارعة والتطورات الجذرية في مجال العمل والأعمال، يبرز التعلم باتقان (Mastery Learning) كمنهجية تعليمية ثورية تعد بتحويل الطريقة التي نفكر بها عن التعلم والتطور المهني. تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ أساسي يؤمن بقدرة كل فرد على التعلم وإتقان المادة الدراسية أو المهارات المطلوبة، بشرط توفير الدعم المناسب والوقت الكافي له.
منهجية التعلم باتقان، التي طورها بنجامين بلوم في الستينيات، تنقلب على النماذج التقليدية للتعليم التي تعتمد على الزمن كثابت، مقدمةً نموذجًا يجعل الزمن متغيرًا والإتقان ثابتًا. هذا يعني أن التركيز ينصب على التأكد من فهم الطالب التام للمادة قبل الانتقال إلى الموضوع التالي، وهو ما يمثل تحديًا واعدًا للنماذج التعليمية في قطاع الأعمال.
التطبيقات العملية لهذه المنهجية تمتد لتشمل برامج تطوير المهارات المهنية والتدريب في مجال الأعمال، حيث تسمح بتكييف العملية التعليمية لتلبية احتياجات ووتيرة تعلم كل متدرب، وتعمل التقييمات التشخيصية والتكوينية والتغذية الراجعة المحددة على ضمان فهم المواد بشكل كامل، مما يعزز من فعالية برامج التدريب ويسهم في تحقيق نتائج أفضل على المستوى الفردي والمؤسسي.
ومن خلال تبني نهج التعلم باتقان، يمكن للمؤسسات في مجال الأعمال أن تضمن تطوير مهارات موظفيها بشكل فعال ومتقن، مما يدعم نموها وتطورها في بيئة العمل الحديثة. سواء كان ذلك من خلال برامج تطوير المهارات القيادية، الفنية، أو الإدارية، لأنه يقدم إطارًا يساعد على بناء قاعدة مهارية متقنة تلبي احتياجات السوق المتغيرة.
وبالنظر إلى النجاحات الملحوظة في مجال التعليم والتطوير المهني، يتضح أن التعلم باتقان يمثل فرصة كبيرة للشركات التي تسعى لتحسين كفاءة وفعالية برامجها التدريبية. من خلال تكييف هذا النهج مع احتياجات وتحديات العصر، إذ يمكن للمؤسسات الاستفادة من إمكاناته الكاملة لبناء قوة عمل ماهرة ومتقنة، قادرة على التكيف والنمو في سوق العمل المتغير.
ومع ذلك، تواجه المؤسسات التحديات في تطبيق هذا النهج بشكل كامل، مثل محدودية الموارد، التحديات في تخصيص التعلم، ومقاومة التغيير. ومع ذلك، تظل الفوائد المحتملة للتعلم باتقان، بما في فيها تحسين الأداء والنتائج الملموسة، دافعًا قويًا للتغلب على هذه التحديات.
هناك العديد من التجارب الناجحة على الصعيد العالمي لتطبيق منهجية التعلم باتقان في التطوير المهني المستمر. من أبرزها ما قامت به خان أكاديمي، التي تعتبر رائدة في استخدام التكنولوجيا لتوفير تجارب تعليمية مخصصة تتبع منهجية التعلم باتقان. تتيح خان أكاديمي للمتعلمين الوصول إلى موارد تعليمية متنوعة تسمح لهم بالتعلم بوتيرتهم الخاصة، مما يدعم التطور المهني المستمر ويعزز من فهمهم للمواد الدراسية.
وهناك منظمات أخرى مثل برنامج مايكروسوفت للشهادات تقدم نماذج مماثلة، حيث تتيح للمهنيين في مجال تكنولوجيا المعلومات تطوير مهاراتهم وفقًا لمستويات مختلفة من الخبرة وبوتيرة تناسب احتياجاتهم الشخصية والمهنية. هذه البرامج تعتمد على التعلم باتقان لضمان تحقيق الإتقان الكامل قبل الانتقال إلى المستوى التالي.
وفي المملكة العربية السعودية، تم اعتماد منهجية التعلم باتقان في عدة مؤسسات تعليمية ومهنية كجزء من جهودها لتحسين جودة التعليم والتدريب. على سبيل المثال، برامج تطوير المعلمين التي تعتمد على نهج التعلم باتقان تساهم في تطوير مهارات التدريس للمعلمين بما يتوافق مع أحدث الممارسات التعليمية. كما بدأت بعض الجامعات السعودية في تطبيق هذه المنهجية في برامج معينة لضمان أن الطلاب يتقنون المواد الدراسية بشكل كامل قبل التقدم للمستوى التالي، خاصة في المجالات العلمية والهندسية.
كذلك مبادرات التعليم الإلكتروني مثل منصة “دروب” تقدم دورات تدريبية تعتمد على نهج التعلم باتقان، مما يتيح للمتعلمين تطوير مهاراتهم وفقًا لسرعتهم واحتياجاتهم الخاصة، وهو ما يمثل خطوة مهمة نحو تحقيق التطوير المهني المستمر.
إن منهجية التعلم باتقان يمكن أن تحدث دورًا محوريًا في دعم رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى بناء مجتمع معرفي مزدهر وتعزيز التنمية الاقتصادية. من خلال تبني هذه المنهجية، يمكن تحسين جودة التعليم والتدريب، وتطوير مهارات القوى العاملة لتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. التركيز على الإتقان والتعلم المخصص مما يساهم في تحقيق نتائج تعليمية أفضل، ويدعم الابتكار ويعزز من القدرة التنافسية للمملكة على المستوى العالمي.
التعلم بالإتقان هو مفتاح النجاح والتميز في كل مجالات الحياة، وهو مبدأ يؤكد على أهمية الإخلاص والجودة في التعلم والعمل. الإسلام كدين يحث على السعي وراء العلم والتمكن منه، مستندًا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية التي تضع أسسًا راسخة لأهمية العلم والتعلم بإتقان.
في القرآن الكريم، تأتي آيات عديدة تشجع على طلب العلم وإتقانه، منها قوله تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر: 9)، مما يؤكد على تفضيل العلماء والمتعلمين ويحث الأفراد على سلك طريق العلم والمعرفة.
ومن السنة النبوية، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، يؤكد الحديث على الجودة والإتقان في كل ما نقوم به من أعمال، بما في ذلك التعليم والتعلم ،وأهمية الإخلاص والجد في العمل، مما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع ككل.
التعلم بالإتقان يتجاوز مجرد الحصول على المعرفة؛ إنه يشمل العمل بها وتطبيقها بطريقة تخدم الإنسانية وترتقي بالمجتمع. والاستثمار في التعليم الجيد والمهارات العالية يعد من القيم الأساسية في الإسلام، حيث يرفع من شأن الفرد ويعزز من مكانته في المجتمع ، لذلك يعتبر التعلم بالإتقان ليس فقط واجبًا دينيًا بل هو أيضًا استثمار في المستقبل ،إذ يشجع الإسلام على التفكير النقدي والتحليل العميق ويعتبر طلب العلم من الأولويات التي تقود إلى تحقيق الذات وبناء مجتمع متماسك ومزدهر.
التعلم بالإتقان يمكن أن يكون تحديًا ولكنه في نفس الوقت مجزٍ للغاية. يتيح للفرد أن يعيش حياة مليئة بالرضا والإنجاز، مساهمًا بشكل إيجابي في مجتمعه. ومن خلال الاستمرار في سعينا نحو العلم والإتقان، نستطيع أن نحقق الإبداع والتميز في كل ما نقوم به، معتمدين على القيم النبيلة التي علمنا إياها ديننا الحنيف. الإتقان في التعلم لا يقتصر فقط على الحصول على العلم النظري، بل يمتد ليشمل القدرة على الإبداع والابتكار والتفكير النقدي.
يُعد هذا النوع من التعلم أساسيًا لمواجهة تحديات العصر الحديث والمساهمة في تقدم الأمم ورقيها. وبالتالي، يجب على المتعلمين أن يسعوا لتطوير مهاراتهم التحليلية والابتكارية بجانب اكتساب المعرفة ومن أهمها :
التأمل والتفكير النقدي: يُعلّمنا الإسلام أهمية التأمل والتفكير النقدي، كما في قوله تعالى: “أفلا يتفكرون في القرآن” (النساء: 82). يدعونا هذا إلى تحليل المعلومات والنصوص بعمق، وعدم الاكتفاء بالفهم السطحي للأمور، مما يعزز قدراتنا على الإبداع والابتكار.
التعليم مدى الحياة: التعلم بالإتقان يعني أيضًا الاعتراف بأن التعليم عملية مستمرة مدى الحياة. فليس هناك نهاية للمعرفة ولا حد للتعلم. يُظهر هذا التوجه تواضعًا في السعي وراء العلم واعترافًا بأن الفهم والإدراك يتسعان مع كل معلومة جديدة نكتسبها.
التوجه نحو خدمة المجتمع: من المهم أيضًا أن نفهم أن الهدف من التعلم بالإتقان ليس فقط الارتقاء الشخصي وإنما أيضًا خدمة المجتمع. الإسلام يحثنا على استخدام العلم في تحسين حياة الناس والمساهمة في حل المشكلات الاجتماعية والعالمية. من خلال هذا النهج، يصبح التعلم أداة قوية للتغيير الإيجابي والتنمية المستدامة.
إن الطريق نحو الإتقان هو رحلة مستمرة من التعلم والتطبيق والتحسين، مستلهمة من السيرة النبوية والتراث الإسلامي الغني بالعلماء والمفكرين والمبتكرين الذين أثروا الحضارة الإنسانية بإنجازاتهم. لذا، يجب على كل مسلم أن يسعى للتعلم بإتقان، مسترشدًا بالقرآن والسنة، ومتأملًا في خلق الله، ومساهمًا بشكل فعّال في رقي مجتمعه والعالم.
أخيرًا، التعلم بالإتقان يتطلب الإيمان بقدرتنا على التغيير والتأثير في العالم. هذا الإيمان بالنفس وبالإمكانيات التي وهبها الله لنا هو ما يدفعنا للسعي وراء التميز والابتكار. أيضًا إلى إحداث تأثير إيجابي طويل الأمد في المجتمع والعالم،ويمكن للأفراد الذين يتعلمون بإتقان ويطبقون معرفتهم بحكمة أن يكونوا قادة التغيير والابتكار في مجتمعاتهم، مساهمين بشكل فعال في التنمية المستدامة والرفاه العام، في نهاية المطاف، التعلم بالإتقان ليس مجرد هدف يُسعى إليه، بل هو طريقة حياة تعكس الإخلاص في الطلب، الدقة في التطبيق، والسعي الدائم نحو الكمال، مع الإيمان بأن كل جهد في سبيل العلم والعمل الصالح هو في ميزان الأعمال يوم القيامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال