الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كما في العنوان؛ تابي و تمارا، وسمة و أخواتها -من شركات المعلوماتية الائتمانية والمصرفية المفتوحة- ، هي الطريق إلى الحرية لا السجن.
يبدو أن الطريقة التقليدية لإجبار المدين على دفع ما في ذمته للغير والتي تنتهي في أقصى إجراءاتها إلى سجن المدين، كانت هي الاسلوب المتبع قديماً في كثير من البيئات والتشريعات الشرقية والغربية، وفي حين أنها وسيلة فعالة في كثير من الأحايين إلا أن لها تكاليف وأعباء اجتماعية و مالية عامة وخاصة. فعلى المدين أولها وهو أقساها منعه من العمل والتكسّب الذي يقوته و يقوت أسرته، خلا التكاليف والأعباء الحكومية في مزيد الإجراءات الحقوقية التي تصل بالمدين للسجن ثم تكاليف السجون وما يستتبعها من نفقات.
وفي لمحة موجزة سنقف على السجن في الأموال تاريخياً وفقهياً وقانونياً وعلى بعض التطبيقات في النظام الأمريكي والأنظمة الأخرى ونختم بالتوجهات التشريعية الحديثة وإلى أي اتجاه تسير وتتجه في هذا السياق، و ما محل (تابي و تمارا و سمة) في هذا النقاش؟
ففي اليونان القديمة، إذا كان الرجل مدينًا ولم يتمكن من السداد، فإنه يجبر هو وزوجته و أطفاله أو خَدَمه على (عبودية الديون)، حتى يسترد الدائن خسائره من خلال عملهم البدني. وكان عبيد الديون هولاء يتمتعون بحماية خاصة على حياتهم وأطرافهم (أيديهم وأرجلهم) كون عبوديتهم مؤقتة، وقد كانت حددت العديد من المدن في اليونان القديمة عبودية الديون هذه بما لا يزيد عن خمس سنوات.
أما في الشريعة الإسلامية فقد جاء النص صريحاً على عدم جواز التضييق على المدين الذي ثبت إعساره (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، و أما المدين الموسر فيحبس عند عامة الفقهاء ، قال ابن المنذر “أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين، منهم مالك والشافعي وأبوعبيد .. و روي عن شريح و الشعبي”، و مجهول الحال الذي لايعرف حاله يحبس مدة تكفي لاستظهار حاله أو يأتي بالبينة على إعساره.
وفي العالم الغربي كانت سجون الأفراد الذين لم يسددوا ديونهم شائعة وحتى منتصف القرن التاسع عشر حيث كانت تُعرف باسم سجون المدينين (debtors’ prisons)
ففي عام 1641، كان هناك حوالي 10000 شخص في إنجلترا في السجن بسبب الديون. والسجناء في هذه السجون كانت أحكامهم تعتمد على حجم الدين وقدرة الأسرة على جمع الأموال. ولم تكن سجون المدينين مخصصة للفقراء والمعوزين فقط بل حتى للسياسيين والمشاهير، الذين ربما كانوا قد قضوا بعض الوقت في سجون المدينين هذه بما في ذلك توماس جيفرسون (أحد أشهر الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية). وقد واجه أولئك الذين تقدموا بطلبات الإفلاس في ولاية بنسلفانيا عقوبات متعددة مثل وضع علامة بالحرف “T” على إبهامهم، أو الجلد العلني. و قد كان هذا النوع من السجون منتشراً في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية بشكل واسع و أما بعد نهاية الحرب وتهاوي الاقتصاد وتعاظم الديون على الولايات والمؤسسات و الأفراد فقد اضطرت البلاد لإعادة النظر في موضوع هذه السجون وفي عقوبة السجن على المدينين المتعثرين في سداد ديونهم. علاوة على ذلك فقد كان هناك فئة من المهاجرين الاوروبيين إلى أمريكا ينظرون إليها بأنها بلد الفرصة الثانية و طريق للخلاص من الديون التي أثقلتهم في بلدانهم الأصلية، فلم يكن من الملائم بقاء هذه العقوبات مع الحاجة والرغبة في استقطاب هؤلاء المهاجرين.
و مع ظهور قانون الإفلاس، تم منح الأفراد وسيلة للخروج من الديون التي لا يمكن سدادها ، وأجبر الدائنون على تقاسم بعض المخاطر الناشئة من إقراض المدينين أو مشاركتهم، فصدرت تشريعات في الأعوام 1841 و1867 و1898 لتحل محل النظام الذي كان يجرم الإفلاس، فجاءت قوانين الإفلاس مصممة لتحل أكبر قدر ممكن من الديون التي يستطيع المدين تحملها، وإسقاط الباقي. وخلال القرن العشرين، وفي ثلاث مناسبات منفصلة، أكدت المحكمة العليا عدم دستورية حبس أولئك الفقراء المعدمين الذين لا يستطيعون سداد الديون.
لكن مؤخراً في الولايات المتحدة، واستثناء من هذا الأصل في عدم جواز سجن المدين، تكاثرت في بعض الولايات حالات حبس المدين في مبالغ يسيرة تكون أحياناً قيمة فاتورة علاج أو مخالفة مرورية لم يقم المدين بسدادها ولم يحضر موعد المحكمة فيقرر القاضي أن سجن المدين لعدم احترامه لقرار المحكمة ولكونه ينوي عدم الوفاء، وعادة تتولى شركات تحصيل الأموال هذه المطالبات وتضيف عليها أسعار خدماتها و غرامات التأخير فيتضاعف الدين. لكن هناك الكثير من الاعتراضات على هذه الممارسات من المحاكم كونها تتعارض مع الحق الدستوري بعدم جواز سجن المدين والذي تقرر منذ عام 1833.
وبأخذ مثال آخر من أقصى الشرق في اليابان سنجد أنظمة الإفلاس للشركات والأفراد تعطي عدة خيارات لطالب الإفلاس ( إما الاتفاق مع الغرماء الدائنين على تقسيط المديونيات على ٣-٥ سنوات أو تقديم طلب للمحكمة بتقسيط المديونيات أو الخيار الأخير وهو طلب الإفلاس في الحال) والأهم أنها تخلو من عقوبة السجن في الديون عامة مالم تنطوي على المعاملة على احتيال ينقلها إلى نطاق القوانين والعقوبات الجزائية التي يدخل من ضمنها السجن بشكل أساس.
ومؤخراً وفي كثير من البلدان العربية عمدت القوانين إلى منع سجن المدين إلا في حالات محددة ولفترات يسيرة يقررها القضاء. ففي الأردن أدخلت تعديلات على قانون التنفيذ للحد من حبس المدين بوجه عام، ومنع حبس المدين في بعض الحالات التي يمكن أن يترتب عليها آثار اجتماعية سلبية و كذلك تخفيض مدة حبس المدين عن الدين الواحد بما لا يتجاوز ستين يوماً في السنة الواحدة بدلاً من (90) يوماً، ولا تتجاوز مدة الحبس في السنة الواحدة عن (120) يوماً (4 أشهر) مهما تعدد الدائنون، وذلك لمنح المدين فرصة لتأمين المبالغ المالية المترتبة عليه، ومراعاة مصالح أسرته. وكذلك تخفيض مبلغ التسوية المقدم من 25% إلى 15% وتقسيط بقية مبلغ الدين.
إذن، ما علاقة تابي وتمارا وسمة وأخواتهن بفكرة سجن المدين؟
العلاقة المباشرة ستكون جلية لو افترضنا أن سجن المدين لا زال سارياً، فمع التعثر وعدم القدرة ع السداد سيكون السجن هو المصير المتحتم.
لكن العلاقة غير المباشرة هي المقصودة هنا. فمع سنّ قوانين عدم جواز سجن المدين في ديون المعاملات المدنية ، برزت الحاجة إلى الوسائل البديلة الناجعة التي تدفع المدين للوفاء بديونه والتزاماته المالية للغير بعيداً عن السجن الذي أصبح وسيلة ممنوعة في القوانين الحديثة -كما تقدم معنا- ولا شك أنه من غير التضييق على المدين فإنه لا يتصور أن يكون الالتزام بأداء هذه الديون عالياً، ثم إن هناك شريحة من المفلسين والمماطلين والمتلاعبين ينبغي أن يتم حماية الناس من التعامل معهم. لذلك جاءت القوائم السوداء لدى البنوك ومؤسسات التمويل والتي تطورت إلى تصنيف الناس بحسب ملاءتهم و تاريخهم الائتماني من قبل شركات مستقلة عن البنوك. ولم يقتصر الاستفادة من هذه السجلات الائتمانية قاصرة على البنوك بل شملت جميع التعاملات التي فيها مبالغ مؤجلة بما في ذلك قرار تأجير المساكن والسيارات بل حتى التعيين في بعض الوظائف. وهذا الأمر هو الواقع اليوم في عامة البلدان الغربية و أمريكا تأتي على رأس القائمة.
وعوداً على تابي وتمارا، فإن المتأمل ربما رأى اندفاع الشباب والفتيات إلى الشراء بالديون المقسطة أنه سيكون طريقاً إلى سريعاً إلى السجن، لكن في الضفة الأخرى من نهر الديون هذا ستجد أن هذه الوسائل زادت وعي العامة والجيل الناشيء بأهمية المحافظة على السجل الائتماني لدى سمة وأخواتها، وهذا الوعي هو السبيل لاستيعاب وجود حلول أخرى للتضييق على المدين سوى السجن والإيقاف، وذلك عندما يتكامل الوعي بالحفاظ على السجل الائتماني، والذي سيستتبعه قريباً التوسع في اشتراط التحقق الائتماني Credit Check في كثير من التعاملات المدنية، كإيجار البيوت والسيارت وربما التوظيف وغيرها من التعاملات مهما صغرت، وبالتالي سيكون الفرد حريصاً كل الحرص على بقاء سجلاته الائتمانية نظيفة خالية من شوائب الديون وآثارها، وستبدو قوانين التنفيذ التي تمنع سجن المدين أكثر واقعية و منطقية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال