الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سألني عدد من رجال الأعمال العاملين في القطاع الصناعي عن اتفاقيات التجارة الحرة وآثار ابرامها في ظل حراك وطني غير مسبوق نحو تعزيز التنمية الصناعية في المملكة. وأكثر ما يقلق السائل فكرة تحرير التجارة وفتح أسواقنا لواردات الدولة التي يتم التفاوض معها لإبرام اتفاقية تجارة حرة. سأحاول في هذا المقال شرح الموضوع بشكل مبسط وتغطية عدد من جوانب هذه الاتفاقيات قبل الانتهاء بالحديث عن مكاسبها المتوقعة.
بشكل عام، تغطي اتفاقية التجارة الحرة عدداً من الفصول ومنها السلع، والخدمات، والاستثمار، والتجارة الاليكترونية، والجمارك، وقواعد المنشأ وغيرها بجانب فصل للتعاون العام يناقش مجالات العلاقة بين الأطراف وتعاونهم العام وغيرها. ولعلنا نركز على فصل السلع حيث أنه محور أساسي في هذا النوع من الاتفاقيات، وهو ما قد يجيب على استفسارات السائل.
قبل البدء في جولات المفاوضات مع الدولة النظيرة، يتم توقيع وثيقة تسمى بالشروط المرجعية. تعتبر هذه الشروط حجر أساس لانطلاق المفاوضات، إذ تحتوي على عدد من التفاصيل ومنها تحديد فترات التحرير. تحدد فترات التحرير توقيت الغاء او تخفيض الرسم الجمركي على عدد معين من البنود الجمركية يتم الاتفاق عليها اثناء جولات المفاوضات.
خلال جولات المفاوضات، يقوم الطرفان بتحديد قائمة من البنود الجمركية والتي يرجى من الطرف الآخر تحريرها (أي الغاء أو خفض الرسم الجمركي عليها وتسمى بجداول طلبات كل طرف. يقوم الطرفان عادة بتبادل جداول الطلبات في نفس اليوم والساعة حتى لا تكشف طلبات طرف دون الآخر. يطلع كل طرف على طلبات الطرف الآخر ثم يتم الاتفاق على تبادل العروض بنفس الآلية. تعتبر العروض هي ما يوافق كل طرف على تحريره للطرف الآخر من السلع ويقوم كل طرف، وبحسب فترات التحرير المذكورة في الشروط المرجعية، بتوزيع البنود الجمركية، التي يعرض تحريرها للطرف الآخر، على فترات زمنية. تبدأ هذه الفترات من تاريخ تفعيل الاتفاقية بعد توقيعها، ثم بعد خمس، وعشر، وخمسة عشر عاماً، وقد تصل إلى، عشرون عاماً في بعض الاتفاقيات.
وهذا يعني بأن السلع سيتم تحريرها في أول كل مدة من المدد المذكورة، أو يتم الاتفاق على البدء في خفض التعرفة مقسمة على عدد السنوات بحسب فئة التحرير بشكل تدريجي بحيث يزال الرسم أو يخفض عند الوصول لنهاية الفترة الزمنية المحددة في فئة التحرير. كما تضم الاتفاقية قائمة سلع لن يتم تحريرها من قبل الطرفين وتسمى قائمة السلع المستثناة من التحرير. وتكون هذه القائمة محل تفاوض في تثبيت الرسوم القائمة وقت التفاوض أو استثناءها من التثبيت، وبالتالي فإن لكل طرف حرية تعديل فئة الرسم لهذه الفئة فقط وقتما يشاء. كما قد يتفق الطرفان على قائمة سلع التخفيض وهي قائمة البنود الجمركية التي ستخضع إلى خفض رسمها الجمركي وليس ازالته بالكامل، وهذا أيضاً محل تفاوض حول متى يبدأ هذا التخفيض وآليته.
وفي جولات المفاوضات، يقوم كل طرف بمحاولة تحصيل أكبر منفعة ممكنة من الطرف الآخر بحيث يحاول كل طرف تحرير السلع التي يصدرها فعلياً في فترات التحرير المتقدمة أي عند دخول الاتفاقية حيز النفاذ أو بعد خمسة أعوام. أما السلع التي لا يقوم أي من الأطراف بتصنيعها اليوم لكنها ضمن خطط التصنيع المستقبلية، فهو يطلب تحريرها في فترات زمنية تتماشى مع خططه في تصنيعها وتصديرها للطرف الآخر. لكن هذا الطلب سيقابله طلب أو طلبات من الطرف الآخر بكل تأكيد، وهو ما يتحكم، إلى حدٍ ما، في فترات وجولات المفاوضات بين الطرفين.
أما بالنسبة لتركيز الفريق فيما يتصل بتحديد البنود الجمركية محل التحرير، فهو ينظر إلى نسبة البنود الجمركية المحررة من إجمالي البنود الجمركية، والبنود الجمركية المحررة والتي تخضع للتبادل التجاري (صادرات) للطرف الآخر، والبنود الجمركية التي يقصد تصديرها مستقبلاً للطرف الآخر. ويجري العمل على الثلاثة محاور في محاولة لتحصيل أكبر المكاسب الممكنة من الطرف الآخر.
ولا تقتصر المفاوضات على السلع في تحديد العروض والطلبات، وإنما تمتد إلى الاتفاق على العديد من النصوص. وتعرف النصوص بأنها المواد التي تحوكم (إجراءات استيراد او تصدير السلع) عمل فصل السلع. وتضم هذه المواد المعالجات التجارية بين الطرفين إذا ما وقعت منافسة غير عادلة. كما تتضمن النصوص والمواد العديد من المحاور المهمة مثل الصحة والصحة النباتية، والسلامة، والبيئة، والمواصفات والمقاييس، والمطابقة وغيرها من المواد التي يجب على الطرفين الاتفاق عليها حتى يتم تطبيقها على صادرات كل دولة للدولة الأخرى.
وبالعودة إلى البنود الجمركية والسلع التابعة لها، تتضح نسبة التحرير التي ينوي كل طرف منحها للطرف الآخر. وعادة ما تتبع الدول منهجية تساوي نسب التحرير بينها إلا في بعض الحالات التي تتفاوت فيها نسب التحرير بين الطرفين. وأقصد بذلك أن يمنح أي من الطرفين نسبة تحرير للطرف الآخر تقل أو تزيد عن تلك التي يمنحها الطرف النظير، وذلك باتفاق الطرفين.
وبشكل عام، تميل الدول التي تتمتع بتنافسية عالية صناعياً، ولديها تنوع في صادراتها إلى الوصول إلى نسب تحرير عالية أو كاملة تصل حد ١٠٠٪. وتحاول الدول التي تعمل على تنويع صادراتها إلى تقييم المخاطر والعمل على ما يلبي جدول أعمالها وتحييد المخاطر المحتملة على صناعتها وصادراتها وتنافسيتها الداخلية والخارجية ولذا قد تسعى الى نسبة تحرير أقل.
وعودة إلى جميع فصول الاتفاقية، فإنها تعمل مع بعضها البعض بتنسيق وتشاور مستمر إذ تتداخل الأعمال مما يتطلب تشاور مستمر وقرارات على كافة المستويات. فمثلاً، يحتاج فريق قواعد المنشأ من فريق السلع تحديد قواعد المنشأ الخاصة بالسلع. وهذا يعتمد على طبيعة السلعة إذ تختلف النباتات عن المواشي منها عن سلع الصناعة التحويلية وهكذا. كما يحتاج فريق الجمارك لاستشارة ورأي فريق السلع حول امكانية الشحن المباشر أو المرور بطرف ثالث، أو امكانية ترجمة ووضع الملصقات في طرف ثالث والعديد من الأعمال الأخرى ذات العلاقة.
أما بالنسبة لتنافسية الدول، فهي بالطبع أولوية في تحليل قدرات كل طرف حيث تختلف تنافسية الدول. هناك دول تتمتع بتنافسية عالية في المنتجات الزراعية، بينما تتمع أخرى بقدرات أكبر في الصناعات التحويلية. كما تختلف الدول من حيث توجهاتها إذ أن بعضها صناعي والآخر خدمي أو تجاري. وربما يقوم طرف بتحرير سلعة أو سلع معينة لدولة بينما لا يحررها لدولة أخرى يتم التفاوض معها مرتكزاً على تحليله للتنافسية والقدرات التصديرية للدولة النظيرة.
أما بالنسبة لمكاسب اتفاقيات التجارة الحرة بشكل عام، فهي تتفاوت من اتفاقية لأخرى. هناك اتفاقيات مكاسبها في السلع أعلى من الاستثمار والخدمات وغيرها. وهناك اتفاقيات تعظم مكاسب الاستثمار على غيرها من الفصول. وبالتالي، يتم تقييم الاتفاقية من عدة زوايا للموازنة بين المكاسب والمخاطر.
وأخيراً، فإن الهدف من اتفاقيات التجارة الحرة هي منح كل طرف في الاتفاقية لامتيازات تزيد على ما يحصل عليه كل طرف بموجب اتفاقية منظمة التجارة التجارة العالمية. وتحقق اتفاقيات التجارة الحرة مكسباً على صعيد جذب الاستثمارات، وتأمين سلاسل الإمدادات والقيمة، وفتح أسواق للصادرات بأنواعها.
إن اصبت فمن الله، وإن اخطأت فمن نفسي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال