الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
واجه العالم صدمة كبيرة من التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي في معظم الدول في السنوات الأربع الماضية بسبب تداعيات الجائحة وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية وكذلك الانقسامات الجيوسياسية للنظام العالمي الحالي.
ينشأ التضخم عندما يتجاوز الطلب الكلي العرض الكلي وكذلك عندما يكون من السهل العثور على مصدر الطلب، العديد من القطاعات التي شهدت “صدمة العرض” خلال الجائحة كانت مستمرة في الإنتاج بقدر ما كانت تنتج من قبل، ولكنها لم تستطع مواكبة الطلب مما تسبب بمستويات تضخم عالية لتلك القطاعات.
هذه النوبة الحادة من التضخم ستكون خاضعة للدراسة من مختلف المدارس الاقتصادية لعدة سنوات قادمة لتفادي سيناريوهات مماثلة في المستقبل، وما بين اضطرابات سلاسل الإمداد أثناء الجائحة وطفرة أسعار الطاقة المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية يمكن تلخيص أهم العوامل المؤثرة على هذه النوبة التضخمية إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
بالعودة إلى سنة الجائحة كان من الواضح جداً إن السياسات النقدية التي اتخذتها الدول لتحفيز الاقتصاد للخروج من حالة الركود قد كانت الشرارة التي أشعلت التضخم العالمي وذلك بسبب محاولة احتواء الأزمة عبر التوسع بالسياسات المالية والنقدية بشكل غير عادي، حيث قادت الولايات المتحدة النهج التوسعي في السياسات المالية العامة و أصدرت الحكومة الأمريكية شيكات بحوالي 5 تريليونات دولار للأفراد والشركات للتصدي لتداعيات الجائحة دون وضع أي خطط واضحة ومنطقية لاسترداد هذه المبالغ و كانت النتيجة تضخما مساوياً للدعم المقدم وهي النتيجة ذاتها لجميع الدول التي أتبعت ذلك النهج.
وبالنظر إلى حالة الاقتصاد العالمي خلال الأربع سنوات الماضية وبدراسة الكيفية التي تحركت بها السياسات النقدية والمالية يمكن استنتاج درسين مهمين من هذه الموجة التضخمية:
الأول : عمليات التحفيز الاقتصادي والإنقاذ المالي يجب أن يكون بشكل متزن وتدريجي تفادياً لأي نتائج عكسية محتملة، فما حدث من برامج تحفيز اقتصادي بعد الجائحة يشبه إلى حد كبير الإنفاق في فترات الحروب حيث إن البلدان التي كان تعافيها الاقتصادي من صدمة الجائحة أسرع من المتوقع بفضل تبني سياسات تحفيز حادة وغير مرنة مثل نيوزيلندا وسنغافورة وتركيا قد تعرضت لتضخم فاق التوقعات بسبب التحفيز الاقتصادي المفرط دون وضع تصور لفترة ما بعد التحفيز.
الثاني: السيطرة على التضخم تتطلب نظاماً مالياً كاملاً يكون فيه دور البنوك المركزية رئيسياً ولكن سلامة المالية العامة تكون في الدرجة الأولى قبل ذلك.
كانت تدخلات البنوك المركزية تسير بشكل متوازي مع تطور الأحداث العالمية الوبائية والجيوسياسية حيث شهدت أسعار الفائدة ارتفاعات متتالية في فترات قصيرة جدا مدفوعة بالرؤى النمطية للبنوك المركزية في محاولة لاحتواء مستويات التضخم العالية التي تسببت بها السياسات النقدية والمالية لحماية الاقتصاد العالمي من كساد محتمل بسبب الجائحة ، تضييق الخناق على مصادر التمويل في سبيل احتواء الأزمة من خلال رفع أسعار الفائدة قاد إلى خفض مستويات التضخم التاريخية ولكنه قضى على النمو الاقتصادي في نفس الوقت.
مازالت مستويات التضخم آخذة في التراجع بمساعدة أسعار الفائدة التي بلغت أعلى مستوى لها منذ عقود ، حيث انخفض معدل التضخم الكلي في الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم بلدان أوروبا إلى أكثر من النصف من أعلى مستوياته بعد الجائحة إلا أنه من المبكر القول أنه تم القضاء تماماً على تلك الموجة التضخمية حيث ما زال الاقتصاد العالمي تحت تأثير تدخلات البنوك المركزية.
لا شك إن تدخلات البنوك المركزية خلال السنتين الماضية قد حاصرت أقوى موجة تضخمية منذ منتصف السبعينات الأمر الذي دعم أسعار السلع والخدمات الأساسية للأسر والمستهلكين إلا أنه في الجانب الآخر أعاق فرص النمو في العديد من القطاعات بسبب تكلفة التمويل العالية، وهي إحدى التبعات المقصودة لتشديد السياسات النقدية في سبيل احتواء التضخم والتي تسببت في خسائر فادحة جداً للعديد من الشركات المتداولة في أسواق عديدة.
ألقت التوترات الجيوسياسية والانقسامات في الأنظمة العالمية بظلالها على النظام الاقتصادي العالمي ، حيث عانت دول الاتحاد الأوروبي من أزمة طاقة خانقة نتيجة موقفها المعادي لروسيا في حربها على أوكرانيا ، و تضرب التداعيات الاقتصادية بشدة الدول القريبة من مناطق الصراعات عالمياُ بسبب تعطل سلاسل الإمداد المحيطة بالإضافة إلى تدفق ملايين اللاجئين الذي يدفع بالطلب على السلع والخدمات الأساسية لمستويات عالية والذي قاد لمستويات تضخم غير معهودة.
بعد السيطرة على التداعيات الاقتصادية في الحرب الروسية الأوكرانية في السنتين الماضية تعيد التوترات في البحر الأحمر الاقتصاد العالمي لنقطة الصفر مجدداً، حيث تقدر حركة مرور السفن عبر البحر الأحمر 15 بالمئة من إجمالي التجارة البحرية العالمية وتمثل السلع الأساسية مثل الحبوب والنفط وكذلك الغاز النصيب الأكبر من حركة السلع هناك.
ومنذ الهجوم الحوثي الأول في 19 أكتوبر الماضي تراجعت حركة المرور في البحر الأحمر بشكل كبير وملحوظ ، وما زال من غير الواضح حجم الأثر على سلاسل التوريد العالمية بعد عدة أشهر من الهجوم إلا أنه من المتوقع أن هذا التهديد التضخمي يزداد تعقيداً وأهمية مع مرور الوقت ، ومن المحتمل أن تقفز أسعار الشحن في الربع الثاني من هذا العام إذا استمر تهديد حركة السفن في البحر الأحمر والذي سيؤثر بدوره على سلاسل الإمداد والتأمين وسيؤثر كذلك على تدفق السلع الأساسية للأسواق الأمر الذي يقود إلى مستويات تضخم مرتفعة مجدداً.
تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي وتعزيز النمو يتطلب الموازنة بين خفض التضخم من ناحية وتحقيق نمو أعلى وخفض البطالة من ناحية أخرى، وذلك عبر تصور سيناريوهات مختلفة بشكل مستمر لما سيكون عليه شكل الاقتصاد العالمي والمخاطر المحتملة لرسم ملامح السياسات المالية العامة وآلية عمل البنوك المركزية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال