الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تخيّل معي أخي القارئ أنّكَ ترغب بمراسلة شخص على تطبيق الواتساب أو إرسال فيديو له، حينها أنت مضطرّ إلى تحميل تطبيق الواتساب فقط دون غيره من التّطبيقات وإلّا لن تستطيع الوصول إلى هذا الشّخص أو الفيديو.
ماذا لو قرّرت منصّة أمازون العملاقة حجب بائعٍ من منصّتها ما لم يرضخ لها، وقد حصل ذلك في كثير من القضايا؟ وقس على ذلك في الكثير من المنتجات والخدمات الّتي تسيطر عليها قلّة من الشّركات العملاقة التّقنيّة في عالمٍ أصبح تواصلنا فيه عبر الإنترنت، فكثير من تطبيقات التّواصل الاجتماعيّ لم يعد وسيلة ترفيه، بل بوّابة تواصل مع العائلة والأصدقاء، ومنصّة تسوّق واحتياجًا يوميًّا مهمًّا في عالمٍ رقميّ.
أصبحت هيمنة الشّركات التّقنيّة العملاقة العابرة للحدود، الّتي تتجاوز إيراداتها ميزانيّة دولٍ، مرعبةً لكثير من صنّاع القرار الّذين ما يزال بعضهم يقف موقف المراقب ظنًّا خيرًا في كفاءة السّوق وقوانينه الّتي صُنعت قبل عشرات السّنين مع بعض المحاولات الخجولة هنا وهناك، مثل محاولة صانع القرار الأمريكيّ. أمّا الدّول الأوروبّيّة، فقد اتّخذت مسارًا مختلفًا في التّعامل بسياسة التّنظيم القانونيّ؛ فبعد مداولات طويلة بين أعضاء الاتّحاد استمرّت لأكثر من سنتين، يدخل هذا الأسبوع “قانون الأسواق الرقميّ” Digital Market Act حيّزَ التّنفيذ مقسَّمًا على 54مادّة قانونيّة، ويُعرف اختصارًا بـ DMA)). يهدف القانون إلى تقنين هيمنة الشّركات التّقنيّة الكبيرة الّتي يسمّيها حرّاس البوّابة Gatekeepers، ورفع حصص الشركات المتوسّطة السّوقيّة عبر تخفيف تكلفة الدّخول في هذا القطاع الشّرس، ومنِح المستخدمين الرأي في آليّة استغلال بياناتهم، مع فرضِ غرامات على الشركات المخالفة تصل إلى 10% من إيراداتها على مستوى العالم، وتزداد إلى 20% في حالة تكرار المخالفة.
مبدئيًّا، يستهدف قانون DMA قلّة من الشّركات العملاقة، مثل شركة أبل، وجوجل، وأمازون، وتيك توك، وفيسبوك (ميتا)، ومايكروسوفت، ولم يُقفل الباب هنا، بل يبقى مفتوحًا لِيَضمَّ حتّى الشّركات الّتي تكبر مستقبلًا إلى الحدِّ الّذي تدخل فيه تحت تصنيف حرّاس البوّابة. ولكن، لماذا مصطلح حرّاس البوّابة؟ بالنّظر إلى المادّة 3 من هذا القانون، نرى أنّ للتّسمية علاقة بقوّة هذه الشّركات وتأثيرها العميق في السّوق الأوروبّيّ، إذ يتعيّن على كلّ شركة متوسّطة أو مطوّرٍ ناشئ العبور من خلال هذه الشّركات للوصول إلى عملائهم المستهدفين النّهائيّين؛ أي تكون الشّركات الكُبرى بوّابتهم للعبور إلى مستهدَفيهم النّهائيّين، ومن هنا جاءت تسمية “البوّابة”.
يصنّف قانون DMA شركةً ما على أنّها شركةٌ حارسةٌ بناءً على معيارَين: ماليّ، وآخرَ غير ماليّ. يرتبط المعيار الماليّ بالإيرادات؛ فإنْ حقّقت الشّركة إيرادات تصل إلى ٧.٥ مليار يورو أو تجاوزت قيمتها السّوقيّة ٧٥ مليار يورو خلال السّنة الماليّة، صُنِّفَت شركةً حارسةً. أمّا المعيار غير الماليّ، فيرتبط بعدد المستخدمين، فإنْ زاد عدد مستخدمي شركةٍ ما عن 45 مليون مستخدم شهريًّا في المنطقة الأوروبّيّة، صُنِّفت شركةً حارسةً.
يسعى قانون DMA أيضًا إلى تعزيز وتعويض القدرات التّفاوضيّة مع هذه الشّركات العملاقة، وتخفيف المشكلة القانونيّة المعروفة بـ “تكلفة التّعاقد” في أدبيّات العقود القانونيّة، ورفع حظوظ الشّركات الأقلّ حظوظًا الّتي تحتاج إلى الوصول إلى عملائها النّهائيّين من خلال المرور ببوّابة هذه الشّركات العملاقة والسّماح لها بربط وتمرير البيانات من وإلى العميل النّهائيّ عبر API الخاصّ بالشّركة العملاقة. ويسعى القانون أيضًا إلى إيجاد بدائل لوسائل دفع مرادفة عوضًا عن احتكار الشّركة “الحارسة” وسيلةَ الدّفع على منصّتها الخاصّة بها، ورأينا حيثيّات ذلك في القضايا الّتي رُفعت ضدّ شركة أبل الّتي أجبرت المطوّرين على استخدام منصّات الدّفع الخاصّة بها مقابل نسبة ماليّة كبيرة. وكما يعرف الكثير منّا، إلغاءُ الاشتراك في كثير من التّطبيقات ليس بسهولة الاشتراك فيها، لهذا يلزم قانون DMA الحرّاسَ بتسهيل إلغاء الاشتراك ليكون بسهولة ومرونة طريقة الاشتراك، ويسمحُ للمستخدم بإنزال تطبيقات من متاجر أخرى (ويعزّز هذا مكانة جوجل على حساب شركة أبل الّتي لطالما روَّجت نظامها البيئيّ ecosystem تحت مسمّيات الحماية السّرّيّة والخصوصيّة). ويمكِّن قانون DMA شركات الأعمال والمطوّرين من الوصول إلى البيانات الخاصّة بهم على منصّات حرّاس البوّابة الّتي نتجت من نشاط المطوّر على منصّة حارس البوّابة.
لعلّ التّأثير القويّ لقانون DMA مرتبط بالتّشغيل البينيّ Interoperability الّذي يُعدّ حلمًا لكثير من المطوّرين. لتوضيح الفكرة، دعونا نستعِن بالفكرة الاقتصاديّة (أثر الشبكة Network Effect)، التّي تعني باختصار أنّه كلّما زاد الإقبال على منصّتك أو منتجك، تَعاظما أكثر. خذ على سبيل المثال منصّة X (تويتر سابقًا)، فكلّما زاد نشرُ الأخبار والتّغريدات على المنصّة، تعاظمت قيمة المنصّة، أو انظر إلى أمازون الّتي تتعاظم قيمتها مع وجود الباعة على منصّتها ولجوئنا إليها عند الشّراء، والأمثلة كثيرة على قدرات هذه الشّركات العملاقة. خذ أيضًا قوقل Map الّذي يقدَّم للمستخدمين مجَّانًا، ولكن هل هو مجّانيٌّ فعلًا؟ لا شكّ هناك استفادة مباشرة وغير مباشرة. تستفيد جوجل مباشرة من الكثير من البيانات الّتي يضعها المستخدمون عند استعمالهم التّطبيق؛ ممّا يمكّنها من تطوير الخرائط وفق هذا الكمّ الهائل من البيانات الّتي حصلت عليها مجّانًا. وتستفيد استفادةً غير مباشرةٍ عبر الرّبط مع شركات مثل أوبر على سبيل المثال، عبر ما يُسمّى API الّذي تقدِّمه قوقل أيضًا مجّانًا دون استعمال محدود.
لهذا يسعى قانون DMA للحدّ من هذه الظّاهرة عبر إلزام الحرّاس بالسّماح بالتّشغيل البينيّ Interoperability؛ إذ يُلزِم القانون في الفقرة السّابعة من المادّة الثّامنة الشّركاتِ الحرّاسَ بتوفير الاستجابة للرّبط البينيّ مع المطوّر عند الطلب خلال مدّة زمنية محدّدة. لتوضيح الفكرة نعود إلى السّيناريو الّذي بدأنا به المقال، تخيّل معي أنَّك حمَّلت تطبيق لِنُسَمِّهِ “تحايا”، من الاستحالة أن تتواصل عبره مع شخص يملك تطبيق واتساب ما لم يكن لديه تطبيق “تحايا”، أو ما لم تُحمِّل أنت تطبيق واتساب. ومن هنا يحاول القانون أن يحلّ هذه المعضلة بالسّماح لمن يملك تطبيق “تحايا” بالتّواصل بين التّطبيقين بشروط، مثل الحصول على بروتوكول الواتساب وبعض الاشتراطات التّقنيّة.
تحاول دولٌ عديدة، مثل أستراليا وإندونيسيا وغيرها، اللّحاقَ بركب هذا القانون الّذي يُعَدّ بلا شكٍّ قفزةً تشريعيّةً مهمّةً في صناعة القوانين، خاصّة في مواجهة الشّركات التّقنيّة العملاقة الّتي تزداد قوّة يومًا بعد يوم مع تحوُّلنا نحو اقتصاد رقميّ. ويحاول هذا القانون سدَّ ثغرة أوجدها عالمٌ اقتصاديٌّ يقوم على الإنترنت مع ضعف القدرة على التّفاوض مع الشّركات العملاقة التّقنيّة، ولكن ما زالت هناك الكثير من التّحدّيات الّتي قد تضعف من فعاليّة القانون، منها التحدّيات القانونيّة، مثل حماية السّرّيّة والخصوصيّة عند انتقال البيانات بين التّطبيقات، والتّحدّيات الهيكليّة، فمثلًا، يلمّح تصريحُ مهندس يعمل في فيسبوك إلى أنّ الشّركات الأخرى (مثل تطبيق “تحايا” في مثالنا) بحاجة إلى توقيع اتفاقيّات، والالتزام بسياسة الواتساب وحتّى بروتكول Signal حتّى يُسمَح لها بالتّشغيل البينيّ، وهذه هي الطريقة المناسبة للحماية الأمنيّة عند المراسلات بين التّطبيقين بحسب زعم المهندس. وفضلًا عن هذه التّحدّيات القانونيّة والهيكليّة، ماذا لو قرّرت حارسةُ بوّابة فردَ عضلاتها ومنع إحدى الشّركات من العبور كما فعلت شركة أبل هذا الأسبوع عند طردها لشركة Epic من نظامها؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال