الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعد ميزان المدفوعات مؤشرًا اقتصاديًا مهماً حيث يوفر نظرة ثاقبة للتعاملات المالية لبلد ما مع بقية الكيانات الأجنبية خلال فترة محددة. وينقسم ميزان المدفوعات إلى مكونين رئيسين: ميزان الحساب الجاري، والذي يتضمن الميزان التجاري إلى جانب الخدمات والدخل والتحويلات الجارية، وميزان الحساب المالي. ويشير الميزان التجاري إلى الفرق بين صادرات الدولة ووارداتها من السلع والخدمات، حيث يعد الميزان التجاري الإيجابي ضروريًا لأنه يعكس القدرة التنافسية لبلد ما في السوق العالمية ويمكن أن يؤثر على أسعار صرف العملات والاستقرار الاقتصادي العام. ويظهر ميزان المدفوعات في المملكة العربية السعودية نمط التذبذب الذي يأتي نتيجة تقلبات أسعار النفط العالمية، فبعد أن حقق صافي رصيد الحساب الجاري فائضاً بمقدار 26.1 مليار ريال على إثر التحسن الذي شهدته الصادرات النفطية خلال عام 2018، عاد إلى التراجع خلال عامي 2019 و2020 ليحقق عجزاً كبيراً بنحو-21.0 مليار ريال في الربع الثاني 2020، والذي جاء على خلفية التراجع الحاد في أسعار النفط وكذلك في كمية الصادرات النفطية أثناء أزمة وباء كورونا، (الرسم البياني رقم 1).
غير أن الارتفاع اللاحق في أسعار النفط وزيادة الطلب عليه في عامي 2021 و2022 بعد الإلغاء التدريجي لتخفيضات إنتاج أوبك+ ساعد على عودة تحسن ميزان المدفوعات من خلال زيادة عائدات التصدير واحتياطيات النقد الأجنبي، ليسجل رصيد الحساب الجاري فائضاً بمقدار 47.3 مليار ريال في الربع الثالث 2022. وحيث إن التقلبات في أسعار وإنتاج النفط في المملكة لها تأثير مباشر على ميزان المدفوعات، عاد ميزان الحساب الجاري للتراجع إلى – 4.6 مليار ريال في الربع الثالث 2023. ولذا فإن هذه التقلبات في ميزان الحساب الجاري، الناجمة عن الاعتماد الكبير على عائدات النفط المتقلبة، لا تزال يشكل تحدياً للمالية العامة رغم التحسن الكبير في خفض اعتمادها على الإيرادات النفطية من 90% إلى 65%، والذي جاء نتيجة تنويع مصادر الدخل في المالية العامة ضمن برنامج الاستدامة المالية. ولمواجهة هذا التحدي فإن الأمر يتطلب الاستمرار في برامج التخصيص وكذلك رفع كفاءة الإنفاق بما يؤدي إلى خفض الاعتماد على الإيرادات النفطية وتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة تقلبات السوق النفطية العالمية.
وفيما يخص مكون ميزان الحساب المالي في ميزان المدفوعات فإنه يعكس تدفق الأصول المالية إلى الداخل والخارج بين بلد ما وبقية العالم. ويشير رصيد الحساب المالي الإيجابي إلى أن الدولة تتلقى أصولاً مالية من الخارج أكثر مما يتم تحويله خارجياً، في حين يشير الرصيد المالي السلبي إلى السيناريو المعاكس. وفي سياق المملكة العربية السعودية، يلعب رصيد الحساب المالي لميزان المدفوعات دورًا مهمًا في تشكيل الاستقرار المالي الشامل والتنمية الاقتصادية للبلاد. ويتأثر حساب الميزان المالي للمملكة العربية السعودية بعوامل مختلفة، بما في ذلك التجارة الخارجية، والاستثمارات الأجنبية، والسياسات المالية الحكومية، حيث شهد تحقيق فوائض كبيرة في الفترة ما بين 2010 و2014، والتي ساهمت في ارتفاع صافي إجمالي الأصول الاحتياطية لتبلغ نحو 2.8 مليار ريال في أغسطس 2014، (الرسم البياني رقم 2).
غير أن ميزان الحساب المالي حقق عجزاً كبيراً بمقدار 122 مليار ريال في الربع الرابع 2015، والذي أعقب الانهيار الحاد في أسعار النفط في نوفمبر 2014، ومن ثم شهد تحسناً تدريجياً بعدها ليعود إلى تحقيق فائضاً بمقدار 79.3 مليار ريال في الربع الثالث 2018.
وفي المقابل لتمويل العجز المالي، تم السحب من الأصول الاحتياطية بمقدار 143 مليار ريال في الربع الرابع 2015، بينما تم تسجيل فائض أصول احتياطية بنحو 49.6 مليار ريال في الربع الثاني 2018. وبعد وصول العجز المالي إلى -83.3 مليار ريال في الربع الثاني على إثر أزمة وباء كورونا وتراجع إيرادات الصادرات النفطية، شهد ميزان الحساب المالي تحسناً خلال العاميين 2021 و2022 إذ بلغ نحو 175.9 مليار ريال في الربع الثالث 2022، مستفيداً من الاستثمارات الأخرى (السندات الحكومية) ومحافظ الاستثمار والاستثمارات المباشرة. وفي حين يؤدي ميزان الحساب المالي الإيجابي المستدام إلى زيادة الاحتياطيات، التي تدعم الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي، فإن ميزان الحساب المالي السلبي قد يؤدي إلى تناقص الأصول الاحتياطية والاعتماد على التمويل الخارجي، مما قد يشكل مخاطر على الاستقرار المالي والاقتصادي للبلاد.
تعد العلاقة بين رصيد الحساب الجاري كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي والميزان المالي (المالية العامة) كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي أمرًا بالغ الأهمية لقياس الحالة الاقتصادية، إذ أن وجود فوائض أو عجز في الحساب الجاري يمكن أن يكون له آثار كبيرة على الموازنة المالية للحكومة. ويشير فائض الحساب الجاري إلى أن الدولة تصدر من السلع والخدمات أكثر مما تستورد، مما يؤدي إلى تدفق العملات الأجنبية، حيث يمكن أن يؤثر هذا الفائض في توفير إيرادات إضافية للمالية الحكومية، التي يمكن تخصيصها للإنفاق العام أو خفض الديون. ومن ناحية أخرى، يشير عجز الحساب الجاري إلى أن الدولة تستورد أكثر مما تصدر، مما يؤدي إلى تدفق صافي للعملة إلى الخارج ونقص في الإيرادات للمالية العامة، وبالتالي إلى زيادة الاقتراض لتمويل العجز في المالية العامة.
وقد ظهر هذا الارتباط بشكل بارز في المملكة العربية السعودية، حيث أثرت التقلبات في رصيد الحساب الجاري بشكل كبير على رصيد الموازنة المالية، فعندما بلغت نسبة فائض ميزان الحساب الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي 25.5% في ديسمبر 2011، أظهر فائض الميزانية المالية العامة ما نسبته 11.8% إلى الناتج المحلي الإجمالي أيضاً خلال نفس الفترة، حيث كان هذا الارتباط الإيجابي واضحا خلال فترات ارتفاع أسعار النفط.
ولكن في المقابل، بعد انهيار أسعار النفط في نوفمبر 2014، تحول رصيد الحساب الجاري إلى عجز بنسبة -14.2% إلى الناتج المحلي الإجمالي في نوفمبر 2015. وبالتالي، تحول رصيد الموازنة المالية أيضاً إلى عجز بنسبة -15.5% إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال نفس الفترة. ولقد استمر هذا الارتباط الإيجابي ما بين الحسابين والنمط المتقلب طوال الفترة ما بين 2016 -2020 حتى تفشي جائحة كورونا في الربع الثاني من عام 2020، التي تسببت في انهيار أسعار النفط مرة أخرى. وعلى إثر ذلك تفاقم عجز ميزان الحساب الجاري لتصل نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو -12.2%، مما أدى لاحقًا إلى عجزاً في رصيد الموازنة المالية العامة إذ بلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو -10.7% في ديسمبر 2020. وهذا ما يشير بدرجة الاعتماد الكبير لميزان المالية العامة على ميزان الحساب الجاري، مما يستلزم الحاجة إلى تدخلات استراتيجية لمعالجة هذا الترابط لضمان الاستدامة المالية على المدى الطويل. وعلى الرغم من تفعيل سياسة تنويع مصادر الإيرادات العامة وتنفيذ التعديلات المالية المناسبة والإصلاحات البنيوية للأنظمة الضريبية، مثل فرض ضريبة القيمة المضافة وخفض إعانات الدعم على المشتقات النفطية، إلا انه لا زالت الحاجة قائمة لمعالجة هذا التحدي من جانب سياسة الإنفاق من خلال ترشيد الإنفاق وكذلك في رفع كفاءة الإنفاق. (الرسم البياني رقم 3).
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال