الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الخامس عشر من أغسطس 1971م تلقى الاقتصاد الأمريكي والعالمي صدمة ” الرئيس نيكسون ” التي سوف تعمل على تغيير مسار الاقتصاد لخمسين عامًا قادمة. بدأت الحكاية في كارول – نيوهامشير – الولايات المتحدة – غابات بريتون وودز 1944م، اجتمع العالم الجديد المتأثر بجراح حرب عالمية ثانية طويلة تأثر منها الجميع دون استثناء وبقيادة المنتصر حديثًا الولايات المتحدة في مؤتمر اقتصادي ليتفقوا على نظام نقدي تستند فيه الوحدة الاقتصادية القياسية على كمية ثابتة من الذهب، وأيضًا عمل المؤتمر على السعي لتحقيق النمو في العالم المتهالك وقتها وتشجيع التجارة الدولية والإقراض وإعادة التعمير والإنشاء.
بعد مرور خمسة وعشرون عامًا من اجتماع الغابات ذاك، ظهر نيكسون الرئيس الأمريكي عبر التلفاز ليُذهل العالم ويُعلن عن سياسة الاقتصاد الحديثة للولايات المتحدة والتي أسماها ” لنزدهر دون حرب ” وهي سياسة اقتصادية تبنتها بعد هزيمتها في حرب فيتنام، وكان جوهر السياسة الحديثة هو التركيز على الشؤون الداخلية والاهتمام بها والابتعاد عن الحروب التي أنهكت الاقتصاد الأمريكي كثيرًا، لتكون هذه السياسة الاقتصادية بداية النهاية لنظام بريتون وودز وكسر الربط بين الدولار الأمريكي والذهب بالإضافة الى تثبيت الأجور وتخفيض الضرائب لثلاثة أشهر لتعزيز سوق العمل وخفض التضخم، وفرض نيكسون ضريبة على الواردات بمقدار 10% لتقليل تسرب الدولار الأمريكي للخارج. بعد الرئيس نيكسون ومنتصف أغسطس والسياسة الاقتصادية أصبح النقد ” عائمًا ” بلا أساس يغطيه إلى اليوم.
جاء قرار نيكسون الجريء بعد التدهور في وضع الاقتصاد الأمريكي في الخمسينات والستينات الميلادية والخوف من استمرار استنزاف مخزون الذهب لديها واستبداله مقابل الدولار وبالتالي تدفق الذهب خارج البلاد. على الرغم من أنه قرار فردي من الولايات المتحدة الا أنه كان القرار الأنسب للاقتصاد وقتها. أبرز العوامل الإيجابية للولايات المتحدة بعد أن أصبح الدولار هو المرجع والأساس لأعمال التجارة والتبادل الدولي والديون هي تغطية العجز الخاصة بها وتخفيض حدة الأزمات المالية أو الخروج منها بطباعة الدولار كما حصل في الأزمة العالمية 2008م وكوفيد-19، والجانب السلبي من عملية الفصل هو التزام الولايات المتحدة بأن تكون سياساتها النقدية متوافقة في الغالب مع السياسات النقدية العالمية وتخدمها لكي لا تؤثر على البلدان التي تتأخذ عملتها كعملة احتياطية لها والجانب السلبي الآخر المهم هو أن الطلب على الدولار كعملة احتياطية يزيد من قيمته وبالتالي تحدث ظاهرة التفريغ في الاقتصاد وهو انخفاض التصنيع بشكل قوي بسبب تكلفة العملة والتشغيل المرتفع وتوجه رؤوس الأموال الى الخارج لتقليل التكلفة وبالتالي يتأثر الاقتصاد الأمريكي سلبًا بمرور الزمن.
ينقسم النظام العالمي الحالي الى قسمين: الأول هو قسم البلدان التي ترتبط مع الدولار الأمريكي بسعر صرف ثابت والقسم الأخر هي الدول التي لا ترتبط بعملة معينة وتكون عملتها حرة يعتمد سعر الصرف لها على العرض والطلب في أسواق العملات. الدافع الرئيسي لربط البلدان بسعر صرف ثابت مع عملة بلد أخرى (الدولار الأمريكي هو الأبرز الان) هو الحد من مخاطر تغير سعر الصرف بشكل يؤثر على سير عملية التجارة والتبادل التجاري، فالبلد التي تُربط العملة به (الولايات المتحدة الآن) هو بلد بقوة اقتصادية متطورة وكبيرة ومن غير المتوقع أن تتأثر العملة الخاصة به بشكل قوي على الأقل في المدى القصير.
ربط العملة بأخرى له العديد من الإيجابيات الاقتصادية للبلد الرابط أبرزها استقرار السياسة النقدية، انخفاض تقلب العملة في أسواق العملات الأجنبية، مساعدة المستثمرين الأفراد والشركات والمؤسسات المالية على توقع أسعار الصرف في المستقبل بشكل واضح وسهل مقارنة مع العملة لو كانت حرة يتحكم بها السوق ومعطياته، تسهيل التبادل التجاري والاستهلاكي بسبب شهرة وشعبية وقوة العملة المرتبطة بها عملة البلد الرابط والربط بعملة اقتصاد أخر يجعل الاستثمارات طويلة الأجل واقعية وقابلة للتنبؤ بتكاليفها وأرباحها. الجانب السلبي لعملية الربط هو أن البلد الرابط لابد من أن يكون لديه احتياطي ضخم من العملة المربوط معها (الدولار الأمريكي في مثالنا) لضخ هذا الاحتياطي في أسواق العملات الأجنبية لاستعادة التوازن لسعر الصرف عند محاولة المضاربين استغلال وجود هذا الاختلاف بين الأسعار. والأمر الأخر السلبي المهم هو أن الدول الرابطة تلتزم بنفس إجراءات السياسات النقدية للبلد المربوط معه لذلك يستورد منه نمط معدلات الفائدة والتضخم، على سبيل المثال، لو تم رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة لكبح جماح التضخم فيها فأن دولة بنما على سبيل المثال لابد من أن ترفع الفائدة أيضًا لتحافظ على سعر الصرف الثابت ولتفادي عدم التوازن.
الآن وبعد مضيء خمسين عامًا من نيكسون وظهوره المُثير، لا زال يتربع الدولار الأمريكي في القمة كالعملة الاحتياطية الأولى في العالم على الرغم من الحديث المتواصل على صعود اليوان الصيني أو اليورو الاوربي أو العملات الرقمية في المدى القريب، لكن من الواضح أن الهيمنة ستستمر طويلًا للدولار الأمريكي العتيد لعقود بسبب استخدامه القوي في تبادل السلع والتجارة العالمية وارتباطه بأسعار النفط وارتباط بعض الدول ذات الاقتصادات الكبرى مثل المملكة العربية السعودية بسعر صرف ثابت مع الدولار الأمريكي. والجانب الآخر الذي يعزز مكانة الدولار هو قوة الاقتصاد الأمريكي والقوة العسكرية والجيوسياسية للولايات المتحدة والقوى الناعمة التي تصدرها للعالم جميعًا وسندات الديون المرتفعة والطاغية على أسواق العالم.
الهيمنة للدولار لا تكون مجانية، فقوة الدولار في الأسواق تجعل الواردات للولايات المتحدة أرخص من الصادرات منها، مما قد يؤثر على الصناعات المحلية التي تُصدر للعالم وبالتالي يتأثر معدل البطالة بالزيادة والتوازن الاقتصادي وخاصة في الأزمات العنيفة، وتتأثر الولايات المتحدة أيضًا بشكل سلبي إذا خفضت دولة ما عملتها بشكل كبير مقابل الدولار لتعمل على أخذ حصة للمنافسة في عمليات التصدير، لأن الدولار سيكون مكلف على عملية التصدير، والمتهم الأبرز في هذا هي الصين التي لها عملة منخفضة جدًا شجعها هذا على أخذ حصة كبيرة من عمليات التصدير للعالم من الولايات المتحدة. في نهاية الحكاية وبما أن هذا النقد ” عائم بلا مرفأ ” يلجأ إليه ولا أصل حقيقي يغطي نفوذه فأن يومًا ما سيظهر نجم جديد للهيمنة على العالم.
اقتباس اقتصادي: ” لم تدمر التجارة أي دولة على الإطلاق.” – بنجامين فرانكلين
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال