الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حينما يقوم أحدنا بحجز رحلة طيران عن طريق التطبيقات الذكية وبطريقة تقنية سلسة ينتقل من خطوة إلى خطوة وخلال دقائق ينتهي من الأمر، وخلال هذه العملية يقوم بالموافقة على الشروط المنمذجة مسبقاً والتي لم يقم بقراءتها غالباً، وعندما يقوم الاخر باستخراج بوليصة تأمين على مركبته ويقر بموافقته على جميع بنود البوليصة التي لم يطلع على أغلب بنودها إما لطولها أو لحجم الخط الذي يصعب قراءته، وغير ذلك من الحالات المشابهة التي ليس لها سابق في تاريخ البشرية قبل التطور الصناعي والتكنولوجي، فقد أدى ذلك التطور الذي نشأ بعد الاستقرار والسلم الذي غلب على حال معظم الدول أزمنة مديدة تبعاً لانتهاء الحرب العالمية الثانية؛
إلى نشوء كيانات اقتصادية ضخمة ليس لها مثيل سابق تتمتع بامتيازات وسلطات تجعلها تقدم خدمات ضرورية محتكرة أو شبه محتكرة، كخدمات النقل الجوي والتأمين والاتصالات، وظهرت العقود الالكترونية التي تبرم بمجرد ضغط زر الموافقة على الشروط دون حق تعديلها، ولما كانت هذه الخدمات منشئة لارتباطات تعاقدية بين هذه الكيانات وبين المستفيدين منها مع وجود الأوضاع المهيمنة لهذه الكيانات والتي تجعلها مسيطرة بشكل كلي على بنود واشتراطات التعاقد وليس للمستفيد من هذه الخدمات سوى الإذعان لهذه الاشتراطات لكون العقود غالباً تكون نموذجية موحدة؛ فقد نشأت تبعاً لذلك نوع من العقود اصطلح القانونيين على تسميته بعقد الإذعان، وهو ترجمة للمصطلح الفرنسي (Contrat dadghesion) وقد كان المرحوم الفقيه السنهوري المؤسس وأبو القوانين المدنية العربية هو من اقترح هذه الترجمة وشاعت بعده وأصبحت هي المعتمدة في القوانين المدنية العربية، وقد أطلق عليه بعض القانونين عقد الانضمام.
يقول فقيه القانون المدني الفرنسي جاك غستان في كتابه المميز المرجعي القانون المدني (تكوين العقد): “معظم العقود ذات الأهمية اليوم هي عقود إذعان” وحيث أن الرؤية الثاقبة رؤية 2030 استهدفت التطور في جميع المجالات ومن أهمها المجال التشريعي والقانوني لكونه أهم الأبواب لترسيخ هذا التحول، فقد جاء صدور نظام المعاملات المدنية ليدشن آفاق واسعة في أبواب القانون المدني لم تكن محل بحث في المجال القانوني عموماً والقضائي خصوصاً، وهي بحاجة إلى البحث والمدارسة، وبعيداً عن التفصيل في التعاريف اللغوية والمصطلحية لعقد الإذعان، ودون الدخول في الصنعة الأكاديمية كون عقد الإذعان بُحث كثيراً في الحقل الأكاديمي الفقهي والقانوني، إلا أن مناط بحث المقال هو بشأن ما استجد بشأن عقد الإذعان في نظام المعاملات المدنية حديث الصدور، وقد تطرق النظام إلى عقد الإذعان من عدة وجوه، وقبل الدخول إليها أُشير إلى مفهوم عقد الإذعان بشكل مختصر، وهو عقد متعلق بسلعة ضرورية محتكرة ينفرد فيه أحد أطراف العقد بوضع شروط التعاقد وليس للطرف الآخر سوى التسليم بها.
إن أهم ركن في العقود هو التراضي، قال الرسول ص: (إنما البيع عن تراضي) ولما كان عقد الإذعان يتنافى مع هذا الركن فقد صرح بعض القانونين بعدم تسميته عقداً لغياب ركن الإرادة الحرة من قبل الطرف المُذعن، إلا أن القوانين المدنية العربية وعلى رأسها قانون المعاملات المدنية السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم: (م/91) وتاريخ 29/11/1444هـ أخذوا بالرأي الآخر الذي يجعل الإذعان عقداً مكتمل الأركان، غير أنه ونظراً لعدم التساوي في الرابطة العقدية فقد وازن النظام بين الطرفين بأن أعطى امتيازات للطرف المُذعن منعاً من التعسف من قبل الكيانات المقدمة للخدمات الضرورية، وحيث أن الأصل في النظر القضائي هو النظر للأطراف على حد سواء دون تمايز بينهم استصحاباً لتحقيق العدالة في النظر بعدم تمييز أحد الأطراف بما يخرم العدالة، إلا أن هذا الأصل مستثنى ببعض الأحوال التي يكون فيها لأحد الأطراف هيمنة وسلطات أوسع من الطرف الثاني وهو ما يجعل القضاء مضطراً إلى موازنة طرفي العقد بما يحقق العدالة، ومن ذلك العقود الإدارية التي تتمتع الادارة فيه بصلاحيات واسعة في إبرام العقد وفي تنفيذه وفي الشروط وفي سحب المشروع من المتعاقد معه مما يجعل القضاء يقف موقف الموازنة بين أطراف العقد، ومن ذلك عقد الاذعان وأول هذه الامتيازات هو حق القاضي -استثناء من حرية وضع الاشتراطات بين الأطراف- في تعديل الشروط التعسفية فقد جاءت المادة (96) بالنص على أنه: (إذا تم العقد بطريق الاذعان وتضمن شروطاً تعسفية ؛ فللمحكمة أن تعدلها أو تعفي الطرف الاخر منها وفقاً لما تقتضيه العدالة. ويقع باطلاً كل شرط يخالف ذلك) وقد جاء ذكر الشروط التعسفية دون بيان ماهيتها ليكون الأمر متروكاً للقضاء دونما قيد أو شرط سوى العدالة، وفي ذلك باب واسع للسلطة التقديرية القضائية إيماناً من المنظم بحاجة هذه العقود إلى سلطة غير مقيدة تعيد للعدالة مجراها إذا تم تعديها، وعليه فإن هذه المادة تؤسس بشكل متين لإعادة التوازن بين طرفي عقود الاذعان وترسخ مبدأ الارادة وأثرها في التصرف، كما أبطلت هذه المادة أي شرط يخالف هذا المبدأ كأن تشترط الكيانات المهيمنة اللجوء للتحكيم لإبطال حق المحكمة في تعديل أو إلغاء بعض الشروط.
وعلى سبيل المثال فإن تنازل أحد الأطراف عن حقه في التقاضي واللجوء للتحكيم يجب العمل به، أما وجوده في عقد الإذعان فهو محل للإبطال إذا رأت المحكمة تعسف المذعن له، وكذلك اشتراط مدد غير نظامية للإسقاط الحق في التأمين أو سريان الرخصة مثلاً للمؤمن له في تأمين المركبات، وغيرها من الاشتراطات التي تستغل فيه الشركات المهيمنة وضعها لإسقاط حق الطرف المُذعِن، إن مبالغة بعض الشركات التي تبرم عقود إذعان -كشركات التأمين والطيران والاشتراك في الخدمات العامة- في وضع الشروط المجحفة بالمُذعن لا تفيدها كثيراً إذا بسط الأمر أمام القضاء، كما أن من أهم الضمانات التي جاء بها النظام حماية لمصالح الطرف المُذعن هو تفسير الشك لمصلحته فقد نصت المادة (104) من النظام على أنه: (3- يُفسر الشك لمصلحة من يتحمل عبء الالتزام أو الشرط، ويُفسر في عقود الإذعان لمصلحة الطرف المـُذْعِن.) فالأصل أن يفسر الشك لمصلحة متحمل عبء الالتزام أو الشرط إلا في عقود الإذعان فإنه يفسر لمصلحة الطرف المذعن، وهذا كله رغبة من المنظم في موازنة الكفة بين طرفي عقد الإذعان، وحفاظاً على حقوق الطرف الأضعف في الالتزام.
وختاماً فقد خلا نظام المعاملات المدنية من ذكر اشتراطات القانونين لعقد الإذعان كوجوب أن يكون في سلعة محتكرة وكذلك أن يكون في سلعة ضرورية، وسيكون الاجتهاد القضائي هو الفيصل الناظم لحقيقة عقد الإذعان وقيوده وما يدخل فيه ومالا يدخل فيه، كما سيكون اجتهاد المحامين والمترافعين له الدور الأكبر في إقناع المحكمة بإبطال الشروط التعسفية أو تعديلها، فقد كانت المحاكم الفرنسية والأمريكية مثلاً هي المرجع المنشئ لمفهوم الإذعان ومدى انطباقه على بعض العقود، فمثلاً قضت محكمة ميزوري أن عقود بطاقات الائتمان هي من عقود الإذعان، وكذلك قضت بعض المحاكم الفرنسية والأمريكية باعتبار بعض العقود عقود إذعان كعقود التأمين وخدمات الهاتف وغيرها، وسيكون ميدان القضاء هو الساحة الناظمة لحدود وقيود هذا العقد بما يحقق الغاية المنشودة للجميع وهي العدالة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال