الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا المقال (مع مقالات قادمة) يحاول قراءة المبادئ التوجيهية الصادرة منOECD المعنية بالشركات متعددة الجنسيات. فهذه المبادئ هي في حقيقتها حوكمة لأعمال هذا النوع من الشركات. والغريب أن أثرها يمتد إلى الشركات المحلية، إذ نجد كثيراً من الدول تعتمدها معياراً في حوكمة شركاتها رغم أنها ليست عضواً في المنظمة. والأغرب أن قوانين المنظمة ذاتها غير ملزمة أساساً، بل وحتى على فرض أنها كذلك، فإن الشركات بعيدة عن الالتزام بالقانون الدولي أساساً. ومع ذلك نجد البنك المركزي السعودي لدينا وهيئة السوق المالية يجعلان هذه المبادئ معياراً في إصدار تشريعات لضبط أعمال شركاتها. تلك الغرابة تثير تساؤلاً حول قدرة مبادئ المنظمة في التأثير على الشركات الوطنية رغم أنها غير ملزمة أصلاً للدول الأعضاء، فكيف بغير الأعضاء، بل كيف بالشركات! ومع هذا، فلن يتطرق المقال إلى إجابة هذا التساؤل، وإنما سيركز على تحليل تلك المبادئ وبيان أبرز ما جاء فيها، مع الإشارة إلى تحديثات النسخة الأخيرة عام 2023 ما أمكن؛ لأن تلك المبادئ التوجيهية أو الإرشادات باتت جزءًا من الحوكمة العالمية، بل وامتدت إلى تنظيم الحوكمة البيئية والاجتماعية. هذه القراءة تتكامل في مقالات عدة. ونبدأ هذا المقال بحديث حول المنظمة وطبيعة إرشاداتها (المبادئ التوجيهية).
أولاً، ترجع جذور منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث تأسست عام 1948، وكان اسمها آنذاك (منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي) لأجل إعادة تأهيل الدول الأوروبية بعد الحرب من خلال خطة مارشال الأمريكية، وتطوير الصادرات من الولايات المتحدة إلى أوروبا، ومنع الشيوعية من الانتشار. ثم تلاشت المنظمة قبل عام 1960، فنشأت على أنقاضها (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، ودخلت اتفاقيتها حيز التنفيذ في ديسمبر 1961. واليوم تضم في عضويتها 38 دولة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. ومن اسم المنظمة يتضح أن هدفها هو تعزيز التنمية الاقتصادية في العالم، مما يعني أنها تغطي أي مجال سياسي له مساس بالنمو الاقتصادي. ولذلك، نشهد أن للمنظمة تأثيراً عالمياً على البيئة، والتجارة، وحقوق الإنسان، والعمل، والتعليم، والمسائل الضريبية، وغيرها كما سنعرف. وهذه إحدى نقاط قوة المنظمة كمنظمة دولية؛ إذ عملها لا يقتصر على مجال واحد، بل يشمل الاقتصاد العالمي. ومع ترحيبها بالدول للانضمام إليها، فإنها تسمح في الوقت ذاته لغير الأعضاء بالمشاركة في عمل هيئاتها الفرعية، والعمل أيضاً كمراقبين. ومن جانب آخر، فإن عدداً من قراراتها ملزمة للدول الأعضاء، ومع ذلك تخلو من عقوبات على عدم الامتثال.
ثانياً، المبادئ التوجيهية هي مجموعة من التوصيات لتطوير عمل الشركات التجارية متعددة الجنسيات. وكان إصدارها الأول عام 1976 ثم جرت المراجعات والتحديثات دورياً كل عقد من الزمان تقريباً، فكان الإصدار الخامس عام 2011، والإصدار السادس عام 2023، وصادقت عليه 51 دولة. وتنطوي المبادئ التوجيهية على أحد عشر فصلاً؛ تسعة منها تتكلم عن مجالات حيوية مختلفة، جاءت بالترتيب الآتي: الإفصاح، حقوق الإنسان، التوظيف والعلاقات الصناعية (التجارية)، البيئة، الرشوة وأنواع الفساد الأخرى، مصالح المستهلك، العلوم والتكنولوجيا والابتكار، المنافسة، وأخيراً الضرائب. وجميعها تهدف إلى تطوير عمل الشركات، والحد من مخاطرها. وهي في الأصل كانت ردة فعل على سلوك الشركات غير الأخلاقي المتزايد حين تعمل خارج دولها الوطنية، ولذا فهي توصي الشركات بالامتثال للقوانين الوطنية، وتشجعها على المساهمة الإيجابية في التقدم الاقتصادي والاجتماعي في الدول المستضيفة. ذلك أن القانون الدولي التقليدي لا يعتبر الشركات والأفراد أشخاصاً للقانون الدولي، مما يعني قدرة تملص هذا النوع من الشركات من الالتزام بأحكام القانون الدولي. ونتيجة لذلك، فإن مسؤولية الشركات متعددة الجنسيات تجاه الإنسان وحقوقه، والبيئة والمناخ، وغيرها لا يمكن أن تتم عبر القانون الدولي التقليدي. وبات الخيار الأفضل لحماية البيئة والإنسان هو أن يكون ذلك من خلال معاهدة ملزمة أو مبادرات قانونية غير ملزمة. ولا يوجد في الوقت الحالي أفضل من مبادئ OECD؛ إذ هي الوسيلة الأكثر تنظيماً وتطويراً في توجيه سلوك الشركات إلى تحقيق الصالح العام.
ختاماً، عولمة الاقتصاد أسهمت في توسيع نطاق التجارة العالمية وتكامل الأسواق المالية من خلال الشركات متعددة الجنسيات التي استطاعت تجاوز الحدود الدولية بفضل القوانين ذات الصلة، مما أحدث فجوة في جوانب اقتصادية وبيئية واجتماعية تمس الإنسان بشكل واضح. وحدوث هذه الفجوة يعود إلى غياب تنظيم دولي مشترك، وعدمِ انطباق القانون الدولي على تلك الشركات. لذا لم يكن بُدّ من اللجوء إلى الحوكمة العالمية لردم هذه الفجوة أو الحد من اتساعها. وقد تربع على هذه الحوكمة منظمة مُهْمَلة(OECD) لم تعِ دولٌ أهميتها، رغم أن المنظمة – في واقع الأمر – لديها قَدْر هائل من التأثير بسهولة من خلال مبادئها التنظيمية. ومما يدل على عدم استشعار بعض الدول لوظيفة المنظمة التي تقوم بها، هو أن مبادئها لا تحظى باهتمام كبير في الأروقة الأكاديمية. ومما ينبغي التأكيد عليه أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هي تجسيد للحوكمة العالمية الجديدة رغم عدم جنوحها إلى معاهدات أو اتفاقيات ملزمة، ومع ذلك نجحت في ترسيخ نفسها – كسلطة دولية – بالنَّفَس الطويل والمبادئ المطوّرة؛ مما مكّنها من إقناع الدول بالامتثال لمبادراتها السياسية. وهي لا تزال قادرة على التكيف مع التغيرات العالمية عبر نظامها القانوني غير الملزم، لقدرتها على المواكبة والتطور وإنتاج معلومات وتوجيهات جديدة، نظراً لطبيعتها غير الملزمة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال