الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تمثل مؤشرات الأداء جانباً لا يُستهان به من أساليب قياس ومتابعة تطور الأعمال والاستراتيجيات. وتتنامى هذه القناعات بشكل مطرد حتى تصل إلى مرحلة الهوس لدى بعض مسؤولي الأعمال. قاد هذا الانفتان الى تكون قناعات مثل مقولة “ما لا يمكن قياسه لا يمكن تطويره أو تحسينه”. إلا أن ذلك ليس على إطلاقه، فالانغماس إلى حد مفرط في المؤشرات الكمية له العديد من المساوئ أيضاً ولعلنا نستعرض أحد أبرز حالات إستخدام المؤشرات الكمية بشكل أدى الى نتائج سلبيه وهو وزير الدفاع الأمريكي روبرت مكنامارا خلال حرب فيتنام وهو ما استلمهم منه العالم دانيال ما سماه بعده بـ”مغالطة مكنامارا”.
روبرت مكنامارا تخرج من جامعة هارفارد، وأصبح رئيساً لشركة فورد موتورز ثم وصل إلى منصب وزير الدفاع الأمريكي في الستينيات. حقق العديد من الإنجازات خلال مسيرته المهنية ولعل من أهم أسباب نجاحه كانت القدرة على مراقبة العمليات الصناعية من خلال مؤشرات أداء كمية قاد هذا النجاح ماكنمارا الى أن يرى العالم من خلال الأرقام فقط. خلال حرب فيتنام، وبسبب تعقيدات العمليات العسكرية، حاول مكنامارا تطبيق هذه المفاهيم والمؤشرات لقياس تقدم العمليات العسكرية ولصعوبة قراءة المجريات على الأرض بشكل دقيق، فضل وفريقه الاعتماد على عدد القتلى كمقياس رئيسي للنجاح، للأسف لم تكن تلك المؤشرات ذات فائدة حقيقية لقياس تقدم العمليات، بل ساهمت بشكل أو بآخر في انحراف قراءة مجريات المعركة مقارنة بالواقع مما أدى إلى استحالة استمرارية الحرب.
قدم السوسيولوجي دانيال يانكيلوفيتش بعد دراسة ما حدث وتحليله بالخروج بمصطلح “مغالطة مكنامارا”، وهي تشير ببساطة الى أن من أبرز الأخطاء التي تم ارتكابها هي القناعة بقياس كل ما يمكن قياسه بسهولة وتجاهل ما لا يمكن قياسه بسهولة، والافتراض بأن ما لا يمكن قياسه بسهولة ليس مهماً.
تجسد مغالطة ماكنامارا مخاطر الاعتماد المفرط على المقاييس الكمية مع تجاهل الجوانب النوعية التي يصعب قياسها ولكنها لا تقل أهمية. إن المبالغة في رقمنه العمليات والأمور التي قد لا يكون قياسها بشكل كامل ممكنًا، تقود في العديد من الحالات إلى عدم توازن في عمليات التقدم وفقدان الاتجاه الصحيح من خلال تقديم مؤشرات لا تعكس الواقع بشكل جيد ولكنها تعطي انطباع زائف بالتطور. وهذا قد يقودنا أن المغالطة تفند بعض الأفكار المضللة بأنك يمكن أن تحسن شيئاً من خلال قياسه باستمرار أو ما لا يمكن قياسه لا يمكن تطويره.
يمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة من مختلف القطاعات مثل الصحة والتعليم، حيث أن قياس التعلم ليس بالأمر السهل مقارنة بمؤشرات مثل عدد الحصص أو وقتها أو نسبة الحضور. في التعليم، غالباً ما يتم استخدام اختبارات معيارية ومؤشرات كمية لتقييم أداء الطلاب والمعلمين. هذا النهج يؤدي إلى تجاهل العديد من الجوانب الهامة للعملية التعليمية، مثل التفكير النقدي والقدرة على حل المشكلات، التي لا يمكن قياسها بسهولة. النتيجة هي صورة غير كاملة للأداء الفعلي وتقدم الطلاب، مما قد يؤدي إلى سياسات تعليمية غير متوازنة.
في القطاع الصحي، قد يتم التركيز بشكل مفرط على مؤشرات الأداء الكمية مثل أعداد المرضى المعالجين أو الوقت المستغرق في العمليات الجراحية. هذا التركيز يمكن أن يتجاهل جوانب أخرى مهمة للرعاية الصحية الجيدة، مثل جودة تجربة المريض. لذلك الاعتماد المفرط على هذه المؤشرات يمكن أن يؤدي إلى تقديم رعاية صحية تركز على الأرقام بدلاً من تلبية احتياجات المرضى الفعلية.
في النهاية، تُذكرنا مغالطة ماكنامارا بحدود الاعتماد على البيانات الكمية وحدها. في حين أن الأرقام والمقاييس أدوات لا غنى عنها للتحليل واتخاذ القرارات، يجب أن تكملها فهم شامل للعوامل النوعية. الموازنة بين القابل للقياس وغير القابل للقياس يضمن تمثيلاً أكثر شمولية ودقة للواقع، مما يساعد على اتخاذ قرارات أفضل في كل من السياسات والممارسات. وحيث أننا نعيش في عالم يتزايد اعتماده على البيانات، يمكن أن تساعدنا دروس ماكنامارا في تجنب مخاطر التبسيط المفرط وتعزيز نهج أكثر فعالية وإنسانية للتعامل مع التحديات المعقدة.
في رعاية الله……
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال