الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أحب كثيراً تبسيط الاقتصاد وأقول لك هنا إن أردت أن تعرف حجم اقتصاد بلدٍ ما فألقِ فقط نظرةً على مينائه وشكراً. وبعد الشكر، قد تكون الهيئة العامة للموانئ في السعودية والمهام المنوطة بها غير معلومة للكثيرين في المملكة على الرغم من دورها المحوري في كل جزء من تفاصيل يومهم كسياراتهم وأثاث منازلهم إلى حتى مقتنياتهم الشخصية التي لا تفارق جيوبهم.
في حقيقة الأمر، ما كان لكل هذه البضائع المستوردة أن تتوافر وتلبي احتياج السوق السعودي لولا وجود الجهاز الجبّار “موانئ” الجهة التي تشرف على جميع الموانئ (مع بعض الاستثناءات) في المملكة. “موانئ” بكوادرها المتمكنة تجاوزت أصعب الأزمات المتعلقة بسلاسل الإمداد البحرية وجنّبت البلاد تبعاتها الكارثية وليس ببعيد عنا ما حدث أثناء جائحة كورونا 2020م عندما عانى العالم برمته من توقف التجارة البحرية ونقص الحاويات والتضخم الجنوني الذي نتج عن شح المعروض من السلع المستوردة بينما لم يعرف السعوديون عن تلك الأزمة سوى أنهم قضوا مزيداً من الوقت مع عائلاتهم بأمن وسلام بفضل كفاءة الاجهزة الحكومية ومن بينها هذا الجهاز والدعم اللامحدود والتوجيه المستمر من القيادة الحكيمة.
كذلك، ليس سراً أن المملكة تقع جغرافياً في شرق أوسط ملتهب تنهشه الحروب والأزمات والتي تلقي بظلالها على سلامة الخطوط الملاحية والتجارة العالمية وفي كل مرة يكون المواطن والمقيم على أرض المملكة بمنأى عن ذلك كله فما هو سر “موانئ” الذي يجعلها تكسب الرهان مع كل تحدٍ جديد؟.
حسناً، لمعرفة سر “موانئ” يلزمنا معرفة جذورها التاريخية بهذه القصة الجميلة والتي ابتدأت على ساحل بحر القلزم في زمن الجاهلية حيث كانت منطقة الشعيبة (جنوب جدة اليوم) مرفأً لأهل مكة قبل أن ينتقل المرفأ إلى موقعه اليوم في جدة بأمرٍ من الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في صدر الإسلام ويرى معظم الباحثين أن ميناء عثمان هو اللبنة الأولى التي أسست لما أصبح لاحقاً مدينة جدة ثاني أكبر المدن السعودية حالياً.
شهد الميناء فترات طويلة من الإهمال في حقب تاريخية متفرقة حتى جاء العهد السعودي المبارك والذي أعاد إحيائه وتحديثه وتسخيره لخدمة حجاج وزوار بيت الله الحرام حتى أن صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – أمر بتسميته بميناء جدة الإسلامي في إشارةً إلى الاعتزاز السعودي بخدمة الإسلام والمسلمين ويشكل هذا الميناء اليوم أكبر موانئ المملكة العربية السعودية والأول على مستوى البحر الأحمر ومعبراً لـ 75% من التجارة البحرية وأعمال المسافنة في المملكة.
قصة جميلة أخرى جرت على ضفاف الخليج العربي تكشف جزءاً آخراً من سر “موانئ” وهي حينما تم اكتشاف النفط لأول مرة بكميات تجارية في السعودية من بئر الدمام 7 (بئر الخير) ولم ينطق زللاً الشاعر السعودي أحمد علوي عندما قال “وكان بير الخير راعي الأوله” حيث أدار الملك المؤسس – طيب الله ثراه – بيده صمام تعبئة أول ناقلة للنفط السعودي المصدّر للعالم من ميناء رأس تنورة العام 1939م في بداية لازدهارٍ خلق نهضةً سعودية أبهرت العالم. وبالمناسبة، ميناء رأس تنورة اليوم هو أكبر ميناء بترولي في العالم وتمر من خلاله 90% من صادرات المملكة من المواد الهيدروكربونية تشكل نحو 20% من الاستهلاك العالمي.
في الواقع أن ازدهار الاكتشافات النفطية أسس لظهور سيّدة شركات النفط العالمية شركة أرامكو السعودية التي جاءت بقرار إنشاء ميناء الملك عبدالعزيز بالدمام لتلبية احتياجاتها واحتياجات المنطقتين الشرقية والوسطى من الواردات والذي رُبط مع مدينة الرياض بسكة حديد هي الأولى في السعودية وهذا الميناء اليوم ثاني أكبر الموانئ الوطنية والبوابة الأولى للبضائع القادمة إلى المملكة عبر الخليج العربي.
للأمانة، قصص “موانئ” الملهمة لا تتوقف ويكفي أن أخبرك أن المؤسسة العامة للموانئ أنشئت في العام 1976م كمنظم ومشرع ومشغل في ذات الوقت لأعمال الموانئ ولم تستغرق أكثر من عقدين من الزمن ليأتي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد – رحمه الله – في العام 1997م بتخصيص أعمال التشغيل في الموانئ الخاضعة لها في أول تجربة تخصيص للقطاعات الحكومية في تاريخ البلاد ما يؤكد كفاءة وتنظيم هذا الجهاز وجاهزيته الكاملة ليكون ممكّناً لهذه التجربة المستحدثة في الاقتصاد السعودي والتي تكللت بالنجاح وكانت دافعاً ومرجعاً لتخصيص أجهزة حكومية أخرى لاحقاً.
بعد قرابة عقدين آخرين يأتي قرار مجلس الوزراء بتحويل المؤسسة إلى هيئة عامة مستقلة مالياً وإدارياً تمارس الإشراف على جميع الموانئ السعودية عدا الموانئ العسكرية وموانئ المدن الاقتصادية وتكلّف برئاستها حينها معالي المهندس سعد بن عبدالعزيز الخلب صاحب الخلفية المصرفية العريضة مكملاً لمسيرة سابقيه في التأسيس لعمل الهيئة بطابع تجاري بالتوازي مع دورها الرقابي والإشرافي حتى جاء قرار مجلس إدارة الهيئة العام 2021م بتسمية الأستاذ عمر بن طلال حريري رئيساً تنفيذياَ للهيئة وهو الذي كان قد قضى 18 عاماً من حياته المهنية في قطاع النقل والخدمات اللوجستية بمناصب قيادية في كبريات شركات القطاع وهنا أقول أن هذه الكفاءات المميزة التي تعاقبت على إدارة هذا الجهاز بمختلف مسمياته والكوادر المؤهلة العاملة فيه تكشف لك السر الكامل وراء التفوق الذي وصلت إليه “موانئ” اليوم.
ختاماً، تستهدف رؤية المملكة 2030 أن تكون المملكة محور ربط القارات الثلاث وأن تشكل الصادرات الغير نفطية 50% من الناتج المحلي الغير نفطي وأن تتقدم المملكة في مؤشر أداء الخدمات اللوجستية إلى الترتيب 25 عالمياً ما يعني أن “موانئ” هي صميم وصمّام أمان تحقيق هذه المستهدفات وكل الأرقام المعلنة المحققة اليوم تقول أن “موانئ” على المسار الصحيح ويمكنك أن تلقي نظرة على المناطق اللوجستية المدشنة خلال السنوات القليلة الماضية والربط الجاري مع أضخم الخطوط الملاحية العالمية لإدراك حجم العمل القائم. لا أقول أن “موانئ” كما يصف الشطر الجميل “أنا كالقيامة ذات يومٍ آتٍ” بل أقول أن قيامة “موانئ” قد أتت بالفعل فالمملكة هي أكبر اقتصادات المنطقة وضمن أقوى 20 اقتصادٍ في العالم أجمع ووجودها كعملاق لوجستي وبوابة للتجارة البحرية العالمية هو الوضع الطبيعي والمتوقع بحكم مكانتها العالمية وموقعها الاستراتيجي والأيام كفيلة بكشف كل شيء. هل ستلقِ فقط نظرةً على “موانئ” وشكراً؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال