الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الولايات المتحدة الأمـريكيـة – 1970م – أسواق العـقار – بدأت الحكـاية الأولـى والتي أستمـر سردها حتى وفـاة بطلها الرئيس في نهاية العقد الأول من القرن الجـديد وتحديدًا 2008م، لكـن البـطل أوصـى بأخذ الأبنـاء المهمـة وإكمال المسـير والتوسع. الحكاية التي كانت تُروى بالفـرح يومًا وأيـام طِوال لها قُرئــت بكثيـر من الحزن، الحكاية هي حكاية التوريق (Securitization) في أسواق المـال، المنتج الذي وِلـد من رحم وكالات الحكومة الأمريكـية ثم أنتقل فيمـا بعد الى البنوك التي غيرت فيه الكثـير كعادتـها على الدوام. الأستخدام العنـيف والخاطئ للتـوريق هو المتهم الأول بلا منـازع في سقوط اقتـصاد العالـم 2008م، بالرغـم من الألم الذي تسبب به لكثير من الأفراد والمؤسسات الا أنــه قد يكون المنتـج المـالي الأكثر بـراعة على الإطلاق في النظام المالــي الحديث.
يمكـن تعـريف التوريق بأنه كيميـاء أسواق المال الحديثة، وعملية التوريق تعمل على تحويل الأصول الغير قابلـة للتداول الى أصول قابلة للتداول في الأسواق المالية – الديون الاستهلاكية والرهون العقارية والحسابات الدائنـة – هي أمـثله على نوعيـة الاصول الغير الملموسة والغير قابلـة للتداول، لكن التوريق الحديث جعل كل هذه الأصول على شاشات التداول اليوميـة في الأسواق المالــية. أرتفع عدد المؤسسات المالية التي تستخدم عملـية التوريق بسرعة فائقة في منتصف العقد الأول من القرن الجديد وبشكل خاص في بداية العام 2005م، حيث وجدت البنوك والمؤسسات الأخرى أنهـا قادرة عـلى التخلص من الأصول المثقـلة بها ميزانياتها المالـية التي لهـا مخاطر ائتمانية مختلفـة من خلال بيعهـا في الأسواق الماليـة على كل من المستثمـرين الأفراد والشركـات وتحويل كل تلك المخـاطر لتمتصها الأسواق تمـامـًا.
تبـدأ عمليـة التوريق بتحديد الأصول التي تريد المؤسسة المالية التخـلص منها – البنوك – على سبيل المثـال لديها أصول عالية في قوائمها المالية كـ ( قروض عقارية مرهونـة بالعقار )، أذا أختار البنك أن يتخـلص من هذا الأصل الخامل ويستفيد منـه فأنه يبدأ في إنشاء محفظـة تضم جميع هذه الأنواع من الأصول وتسمى المحفظة المرجعيـة، بعد ذلك يعمل على فتح شركة ذات غرض خاص – شركة قانونية يفتحها البنك وتعتبـر مفصولـة تمامًا عنـه ولها قوائمها المالية الخاصة – ثم تشتري هذه الشركـة الوليدة حديثًا المحفظة المرجعية من البنك بعد ذلك تبيعهـا على المستثمرين في الأسواق المالية على شكل سندات أو صكوك. في مثـال القروض العقارية المرهونة بالعقار تتدفق التوزيعات للمستثمرين في الأسواق المالية من خلال أن المقترض يدفع الفوائد الى البنك والبنك بدوره يدفعهـا للشركة ذات الغرض الخاص، وبعد ذلك هي من توزع التدفقات النقدية هذه على المستثمرين مالكي السندات وتستمر هذه الدورة النقديـة، ولكن في حال فشل البنك في تحصيل الفوائد من المقترضيـن فأن كل هذه الدورة سوف تنهار تمـامًا.
من إيجابيـات التوريق بجانب انه قادر على تحويل الأصول غير السائلـة الى أصول سائـلة هي أنه يوفر للمستثمرين في السندات المطروحة تدفقات نقدية مستمرة بالإضافـة إلى انه يسمح لصغار المستثمرين في الاستثمار في أصول كان من الصعوبـة الاستثمار بها لولا وجود التوريق. الجانب المظلم من حكاية التوريق أنه يعلـوه الكثير من عدم الشفافية للمستثمرين فيه بالإضافـة الى أن السداد المبكر للقروض تقلب التدفقات النقدية رأس على عقـب، حيث أن السداد المبـكر يزيد من التدفقات النقدية للمستثمر في وقت تكون العوائد في الأسواق ليست جيدة كما هي في سنـد التوريق الذي يمتـلكه، تعتـبر هذه الإشكالية مع تخلف سداد القروض هي أعظـم المخاطر التي تواجــه ورقة التوريق.
التمادي في التوريق قاد العالـم والاقتصاد الى الانهيـار، انهيار أسقط بنوك عظيمـة كانت تُضرب بها الأمثال على البقاء ضد كل حدث وعاصفة والتي كان يُطـلق عليها ” كبيـرة على السقوط “، بنك ليمان برذرز الطاعن في العمـر والبالغ من العمر القرن والنصف أغلق أبوابـه الى الأبد فجـر 14 سبتمبـر 2008م بسبب التمادي الهائل في التوريق. البنوك ومن بينها كبير السن ليمان وجدت أن القروض العقارية قابلـة للبيع في الأسواق، حتى لو أنها ذات جودة منخفضة، فبدأت عمليـة إقراض عشوائي لأي تصنيف ائتمانـي حتى وصل الحال الى الإقراض دون تصنيف، لأن البنك في نهايـة المطاف سوف يبيع هذه القروض ويتخلص منها. البنوك الباحـثة عن الأرباح والدخول العالـية كانت قادرة على تحويل منتج الترويق البـراق في فكرتـه والرائع الى منتج هو الأسوأ سمـعة في فترة من فترات التاريـخ الحديث.
على الرغم من كل الخـراب في الماضي الا أن التوريق عاد من بعيـد الى الأسواق، ولكن بحلته الجديدة والتي لا تعتمد على الأصول التقليديـة مثل الرهون العقارية، القروض المصرفية والقروض الاستهلاكية، بل تعتمـد على قروض ملكية المنازل، ومستحقات الإيجار، وقروض الأعمال الصغيرة وغيرها. التطور والنمو بعد سنوات من السمعة السيئـة والدمار جاء بسبب تطور نماذج التحليل والنمذجـة ومقاييس المخاطر وحوكمـة مؤسسات التنصيف الائتماني والبنوك والمؤسسات المالية جميعهـا. ومن باب إعادة الثقـة في هذه الأوراق المالـية بدأت بعض التغييرات النظامـية التي من المتوقع أنها سوف تُجـبر المصدرين على الإفصاح عن الاحتياطات الرأسمالية التي سوف تُغطي الأصول المورقــة المُصـدرة.
التـوريق سيبـقى يتجدد بحُلل جديدة كل مـرة لاعتماده على أصول أخرى وليس على ذاتـه، فـكـل الأصول قادرة على أن تدخـل في عملية التوريق والأصول تتجدد كل حين. يشكر المستثمـرين التوريق في وقت ما في الماضي وعادوا في عتابـه بعد سقوطه. والبنـوك يومًا كانت من أشد المعجبين بـه لقدرتـه على التخلص من كل الصعاب، ولكن عادوا لعتابه من جديد بعد أن أوقعهم التوريـق في المحظور وهوى بهم كما هي الحال في كل ورقة مالـية عبر التاريخ. التوريـق هو المثـال الأيقونة على ” صناعة المال من فراغ ” من أصول خاملـة الى الأكثر ضجيجـًا على الأطلاق، وكل الشكـر للبنوك على تلك الهِبـات!
اقتباس اقتصادي: ” ما نعرفه عن الأزمة المالية العالمية هو أننا لا نعرف الكثير.” – بول سامويلسون
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال