الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما تكون أية شركة في حاجة إلى أن تخطو خطواتها الأولى، أو أن تقدم خدماتها التخصصية لعملائها، أو حتى أن تتجاوز أزمة خطيرة تتعرض لها؛ في مثل هذه الحالات تتجمد الدماء في عروق كادر الشركات، وتظهر وكأنها عبارة عن هيكل إداري فارغ من المعنى. فتجد نفسها مضطرة للحصول على رأي خبير قانوني من ذوي الكفاءات الابداعية، ويكون من الصعب ربط هذه الكفاءات بوظيفة ثابتة وتفرغ لذلك تسعى الشركات إلى التعاقد مع مكاتب المحاماة لإدارة المسؤوليات القانونية والإشراف عليها.
ففي العمل الاستشاري بمكاتب المحاماة، قد يستطيع كادر المحامين تسيير إجراءات الدعاوى العادية، وتحصيل الأحكام ثم تنفيذها بكفاءة عالية، لكن عندما تأتي لشركة المحاماة دعوى معقدة في أسواق المال أو الشركات أو الجرائم الاقتصادية أو الالكترونية المتقدمة؛ تكون شركة المحاماة بحاجة إلى دعم معرفي، فهل تكون بحاجة إلى مستشار أم إلى استشاري؛ هنا الفكرة الضبابية.
الواقع يقول بأن العمل القانوني من أكثر الأعمال المهنية حاجة الى الدقة والتخصص، والمشكلة الأساسية في المجتمع المهني القانوني، هو أن الكفاءات تغيب بين المهام غير المتناسبة مع المواهب والقدرات والخبرات؛ فالمحامي التقليدي يكون ممتاز في أروقة المحكمة، فلا يجوز وضعه في ورطة مع دعوى بحاجة إلى بحث علمي حقيقي، وهذا أمر معروف. لكن المشكلة غير المتعارف عليها، هي الخلط بين المستشار القانوني ، وبين الاستشاري القانوني التخصصي في توفير الدعم القانوني للشركات وجهات القطاع الخاص.
أولًا: “المستشار” “Advisor” هو أحد كوادر القيادة في شركة المحاماة؛ أي أن المستشار يضع السكة التشغيلية لممارسة مهنة المحاماة جنبا إلى جنب مع الإدارة العليا والإدارة التنفيذية، لكن بفرق بسيط هو أن المستشار ينظر بمنظور استراتيجي لنشاط الشركة؛ فالمستشار في قضايا أسواق المال يقترح قرارات تخص توسيع نشاط الشركة الاستشاري والمهني نحو شركات المساهمة، ويحدد الخطة الزمنية اللازمة لتطبيق هذا الهدف الاستراتيجي الذي سينقل الشركة نحو مستوى تشغيلي آخر بتغيير وتطوير كبير.
ثانيًا: “الاستشاري” “Consultant” فهو شخص عميق التخصص وغريب عن البيئة الإدارية للشركة، كما أنه يتعامل معها بشكل فردي وليس بشكل مؤسسي؛ أي أن الشركة تطلب منه استشارة محددة عميقة بموضوع محدد، ولا يكون للاستشاري أية علاقة أو مسؤولية تشغيلية؛ فالعمل الاستشاري هو عمل ذو طابع مهني-علمي بحت في مجال التخصص، على عكس المستشار الذي يمارس عملا مهنيا-إداريا-استراتيجيا على مدى نشاط الشركة في مجال التخصص.
وإذا نظرنا إلى شركات المحاماة المحلية، وجدناها تخلط -في معظمها- بين عمل المستشار وبين العمل الاستشاري؛ حيث تارة يكون المستشار جزءا لا يتجزأ من كادر الشركة وكيانها، وتارة يصبح عبارة عن باحث يقوم بعمل استشاري.
الآثار السلبية على مستقبل شركات المحاماة
المشكلة في شركات المحاماة هي أن التداخل بين المستشار والاستشاري لا يعني مجرد تداخل هيكلي شكلي غير مؤثر، ولا يعني أن ممارسة المهنة تتم بشكل تلقائي بغض النظر عن طبيعة العمل ومدى الفصل بين المستشار والاستشاري. بل على العكس، بعض شركات المحاماة تفشل على هذا الصعيد لسببين:
أولًا: تكليف المستشارين ذوي الرؤية الاستراتيجية بمهام علمية عميقة جدا لا تتناسب مع قدراتهم ذات الرؤية الشمولية لنشاط الشركة ومستقبلها، الأمر الذي يؤدي إلى فشل المستشار في مهامه ليس لضعف خبرته، بل لعدم التناسب بين قدراته وبين المهام الاستشارية الموكلة إليه. فمثلًا، إذا تم تكليف المستشار بمهمة دراسة الأنظمة التفصيلية لسوق تجاري معين بهدف تحديد البيئة التنظيمية التي ستخضع لها إحدى الشركات التجارية، فهذه الدراسة هي مادة استشارية عميقة، تحتاج إلى الغوص في الأنظمة، وليس إلى مستشار يمتلك رؤية لتطوير عمل الشركة في ذات السوق التجارية على المدى المتوسط والطويل.
ثانيًا: تكليف الاستشاري المتخصص بمهام تتصف بالشمول من حيث مستوى تطبيقها وأثرها الشامل لجميع مستويات وطبقات النشاط التشغيلي في الشركة. فمثلًا، قد يتم تكليف الاستشاري بإعادة هيكلة بيئة الحوكمة في شركة المحاماة؛ بهدف تنمية قدراتها التشغيلية وجعلها تتوافق مع معايير الأيزو لإدارة المخاطر المالية والتنظيمية والاجتماعية؛ فهذه المهمة لا تصلح للاستشاري بشكلها الشامل؛ لأنها تتضمن تغييرًا واسعًا واستراتيجيا لهيكل الشركة دون التغلغل في نقطة تخصصية استشارية محددة بعينها.
هذا التداخل في المهام بين تخصص المستشارين والاستشاريين سيؤدي -بلا شك- إلى آثار سلبية على أداء الشركة، التي ستعاني من سطحية في معالجتها للمسائل بسبب تكليف المستشارين بمهام الاستشاريين، وستعاني الشركة أيضا من ضعف في تطويرها الاستراتيجي بسبب تكليف الاستشاريين بمهام المستشارين.
ضبابية العمل الاستشاري القانوني.. الغياب الجذري في الجدوى
إن عدم احترام حدود كل من مهنتي المستشار والاستشاري سيؤدي إلى غياب جذري في الجدوى العملية.
سيقدم المستشار الذي يكلف بمهمة عميقة رؤية عامة وشاملة لموضوع تحتاج الشركة إلى معالجة عميقة مبتكرة فيه؛ فيمكن أن يقدم المستشار دراسة وصفية لموضوع التكليف الضريبي بما يشرح الضرائب ونسبها وكيفية تطبيقها، وهي دراسة صحيحة لكنها ليست المادة الاستشارية التي تحتاجها الشركة؛ فالشركة تريد حلا لموكلها وليس استشارة عامة.
أما إذا تم تكليف الاستشاري في الشركة بهذه الدراسة، فإنه يمكن أن يحدد الطرف الأكثر تحملا لعبئها، ثم تكييف الوقائع الخاصة بالعميل على اللوائح ليس بهدف معرفة تطبيق القانون، بل بهدف اكتشاف إعفاء أو ثغرة عميقة في القواعد الضريبية.
أما الاستشاري فقد يتم تكليفه بوضع رؤية استراتيجية لإدارة شركة المحاماة بين الإدارة العليا التي ترغب ببسط نفوذها على الشركاء في ممارستهم لمهنتهم وبين المحامين الشركاء الذين يحق لهم درجة من الاستقلالية المقترنة بالمحاسبة في ممارستهم لمهنتهم على الدعاوى التي في عهدتهم. عندها يمكن القول بأن الاستشاري قد يقف عاجزا عن إيجاد الحل؛ لأنه بعيد عن الأجواء الداخلية داخل كادر الشركة، ولا يعرف أين يكمن النفوذ في الإدارة العليا، ولا كيف يتم التنسيق بين هذه الإدارة وبين المحامين من الشركاء.
تجاوز تحديات العمل الاستشاري القانوني..
يمكن في هذا المقام اقتراح أهم الخطوات التنظيمية والتشغيلية لشركات المحاماة التالية:
الفصل التام بين المراكز الوظيفية للمستشار والاستشاري.
منح المستشار صلاحيات إدارية صريحة تجعل منه قادرا على تحديد الخطوط العريضة للتطوير الاستراتيجي في الشركة.
طلب دراسات استشارية عميقة مهنية-علمية من الاستشاري، مع تحديد الهدف من الدراسة والحلول المتوقعة منها، دون أي تكليف إداري شامل.
وضع معايير اختبار الجودة الاستشارية وفقا لجودة مخططات التطوير الاستراتيجي بالنسبة للمستشار، ووفقا لجودة النتائج ومستوى الابتكار فيها بالنسبة للاستشاري.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال