الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
جاءت أدوات الذكاء الاصطناعي حتى تسهل من عمل الإنسان، وتجعل من المهام الروتينية البطيئة؛ مهاما سهلة وذات هامش خطأ قليل جدا. فمثلا، البحث عن فكرة معينة في الكتب الورقية كان يأخذ من الباحث أسابيع حتى يجد ما يريد في كل كتاب على حدة؛ فيما اليوم باتت هذه المهمة تحتاج إلى ثوان معدودة من خلال البحث في المنصات التقنية. اليوم أدوات الذكاء الاصطناعي لا تقوم بأية معالجة ذاتية للبيانات، بل تخدمها ذاكرتها الضخمة في استدعاء ما يتم طلبه منها في دقة متناهية ووقت لا يذكر. أما إذا تم الطلب منها تأليف كتاب مثل ذلك الذي تقوم بالبحث فيه، فالأمر يختلف جذريا؛ لأننا هنا ننتقل من البحث في البيانات إلى معالجة البيانات.
خلال معالجة البيانات، تعمل منصات الذكاء الاصطناعي بمنهج ترتيبي تنسيقي أكثر منه إبداعي؛ أي أنها لا تقوم بإنتاج فكرة جديدة، بل استقراء كل ما كتبه الإنسان، ثم تقليده. لذا، فإن منهج أدوات الذكاء الاصطناعي في معالجة البيانات لا يعدو أن يكون عبارة عن محاكاة للمحتوى الإنساني.فمثلا، إذا تم طلب إعداد عقد نموذجي من المستشار القانوني، فيقوم المستشار بطرح عدد من الأسئلة التي تتعلق بظروف تنفيذ العقد (هل يتوقع تنفيذه في دول مختلفة وفي فترات زمنية قد تنشأ فيها أزمات مالية أو كوارث طبيعية؟)، وطبيعة علاقة أطرافه (هل هم شركة عائلية أم مساهمة عامة؟)، وتاريخ المنازعات بين هؤلاء الأطراف (هل يوجد سابقة لمنازعة بين الأطراف لأسباب تتعلق بمسائل معينة لم يتم تنظيمها في عقود سابقة أو تم تنظيمها بشكل يراها أحد المتعاقدان غير عادلة؟). هذه المعطيات الواقعية التي تشكل البنيان الواقعي والفعلي لبنود أي عقد، لن تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي (حتى الان) استيعابها، لأنه ينطلق في منهج تفكيره من منطلق روتيني حسابي وليس من منطلق واقعي حقيقي.
التحول الرقمي في تقديم الاستشارات القانونية
تقف الكثير من المهام أمام المستشار القانوني كحجر عثرة، فهي تستنزف الكثير من الوقت والجهد، وهنا يحتاج المستشار للتقنيات الحديثة في تكثيف مراجعات العقود والقوانين والمستندات دون ضرورة العمل عليها بشكل ورقي؛ وهذا الأسلوب لا يزيد من سرعة كتابة الاستشارة ومن دقتها فحسب، بل أيضا يسمح للمستشار من اكتشاف بعض الثغرات التي تظهر من خلال الرؤية التقنية الدقيقة والتي قد تسقط من انتباه الإنسان.
فمثلا، في مرحلة أولى، يحتاج المستشار إلى دراسة البيئة التشريعية من قوانين ولوائح تفسيرية وتنفيذية، ثم تطبيقاتها القضائية، وما استقر عليه القضاء من اجتهاد، والشرح الذي تقدم به الفقهاء حول نقاط الفراغ التشريعي. وبعدها يكون على المستشار استقراء البيئة الواقعية لتطبيق هذه القوانين، والتأكد من مستوى احترامها أو الالتفاف عليها من خلال الثغرات المتعارف عليها التي قد تجعل القانون حبرا على ورق. أما في المرحلة الثانية الحاسمة والأخيرة من عمر الاستشارة القانونية، فيكون على المستشار أن يقدم رأيه وتوصيته بناء على معالجة استنتاجية ناتجة عن تفكير عميق ورؤية خبيرة.
من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي فإن القيام بالمرحلة الأولى من تجميع البيانات والبحث فيها، وتقديم معالجة شكلية وسطحية لها؛ فإن التقنية تكون أكثر دقة وسرعة من الإنسان بشكل غير قابل للمنافسة. لكن إذا انتقلنا إلى المرحلة الثانية، فإن قدرة هذه الأدوات على تقديم توصية ستعتمد على الاحتمالات التالية:
هذه هي السقوف التقنية الحالية للعمل الاستشاري القانوني، والتي تتضح بشكل واضح من خلال عدم قدرة هذه الأدوات على تقديم ما يتوازى أو يتجاوز الإبداع الإنساني، بل مجرد تقليده أو محاكاته.
النطاق الإنساني في العمل الاستشاري غير القابل للاستبدال
إذا كنا بصدد الحديث عن الدور الإنساني غير القابل للاستبدال حاليا في العمل الاستشاري القانوني؛ فعلينا الحديث عن محورين رئيسيين:
أولا: المعالجة الإبداعية: أي تلك التي لا تنشأ عن حل موجود فعلا، بل عن اكتشاف حل علمي أصيل؛ فهي معالجة إنسانية بحتة لا يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي منافسة الإنسان بها. فمثلا، إذا تقدمت شركة بطلب استشارة قانونية لتعديل نظامها الأساسي، فهنا يمكن لهذه الآدوات أن تقترح تعديلات لكنها لا يمكن أن تبتكر نظاماً من غير نموذج سابق مخزن في ذاكرتها الإلكترونية.
ثانيا: المعالجة للمعطيات: فأدوات الذكاء الاصطناعي مهما بلغت درجة استيعابها لمشاعر الإنسان، فتبقى بعض القرارات الإنسانية القائمة على الفراسة والحدس مستحيلة على التقنية.
فمثلا، قد تكون الاحتمالات في دعوى مدنية تشير إلى وجود تزوير من الطرف المدعي لمستندات شراء وهمية، إلا أن المستشار القانوني قد يحسب ألف حساب لدخول متاهة الدعوى الجزائية المعقدة والتي قد يكون من آثارها تأخير الدعوى المدنية لحين البت بصحة المستندات المدنية، كما أن السلطات التقديرية للقاضي الجزائي بالاقتناع بالإدانة هي سلطات واسعة مهما كانت الأدلة واضحة. كل هذه الظروف الواقعية قد تدفع المستشار الإنسان إلى تقييم هذه الاحتمالات والحلول لتجاوزها. أما المستشار القانوني التقني في هذه الحالة، فلن تجري في دماغه كل هذه المعطيات، ولن يفترض الافتراضات ويضع أمامها كل هذه الاحتمالات شديدة الواقعية، بل سيستنتج وجود التزوير بالمستندات، ثم يقترح رفع دعوى تزوير جزائية فقط
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال