الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حروف بلغة الذكاء الإنساني لا يفهما الذكاء الاصطناعي، الماء أصل الحياة، فعلى شُربه وحول مورده تتصدر الصراعات، وتقوم الأكوان، من الأزل في التأريخ البشري، في ظل غياب نظام لم يحدد لأمة يوما شربها بين الأمم، وسيظل لكل أرض حظها وما قُدر لها وما يناسبها، وعلى أساس مائها وفضائها وتربتها ستكون طبيعتها، التي تكتمل بها دورة الحياة فطريا، والإنسان فيها هو روحها الأساسي إذ هي جسده، فسلوكه يجلب لسكانها حُسن التقدير، إما الرخاء أو التصحر، وحول نيته يتمحور كل شيء، وحتما ستكون النتيجة على إحدى الحالتين، إما زرعا أو قفرا.
فمن كانت طبيعة سلوكه الهمة والحرث، فعلى ضوء نيته وهمته يكون حرثه فحصاده فتنميته، إذ هو محورها الذي به يتشكل لونها النهائي الأخضر أو الرمادي، وموطن جذب العوالم على صداقته أو عداوته في الخير أو الشر، فإما أن يُضيف لها الجمال والكمال أو أن يُضيف لها ما يشوهها وينقصها من أطرافها، والسمة الغالبة للإنسان، عشق الكمال وإن لم يدركه، فحسبه بها ميزة وامتيازا، إن حافظ على توهجها وقاوم احباطها.
وإنساننا تميز له عن إنسان الشرق والغرب بعدة ميز، ثَمّ بأرضه وسماءه مخازن الاقتصاد وأصوله، وبوصلة العالم تتجه إليها، أما الماء فمخازنه لدينا كمخازن الهواء ومخازن الشمس، أبوابها في السماء، ثروة لا تُلمس ولكنها لا تُفقد ولا تُحسب، ومفاتيحها في القلوب، إذا فُتحت أبوابها تكاد لا تسعها مخازن الأرض، كذلك عند أحسن استخدام، كما أن هناك ميزة متفردة في الوجهة، حتى تكون لله لا توجد إلا في أرضه، حيث إليها وعندها تهوي الأفئدة وتركع وتسجد الأجساد، وحين تساوت الأحساب والنفوس في السباق، وكلٌ يظن بها في الأثرة، اختار الله لها من يخدمها، وخصه بالفضل والتشريف لميزة في عقله وقلبه، رحم الله احمد شوقي حينما قال:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ،،، ووجدت شجعان العقول قليلا
لهذا كلما أوتي من عقل وعلم وخبرة، ازداد علاوة على علاوة في نسبة مساهمته وتأثيره في تغيير وتعديل ظروف بيئته بل العالم، لتكون أضمن أمنا وسلامة، فتماسكا واستئناسا، وأكثر جاذبية وأوسع سوقا، وبالتالي أقوى تأهيلا وأرغب توظيفا، فدأبه وسعيه في استبدال ما هو ملوث للبيئة، ومانع للآفات الخبيثة والدواب الشرّيرة الماحقة للبركات، إلى ما هو مثمر ومنتج ومزين للبيئة، وجاذب للأرواح الزاكية الطيبة والنفوس الأليفة، لتصبح مأهولة وصالحة للعمران البشري والمادي، فيعيش الحياة المنتجة والممتعة معا.
وأطراف أرضه يتخذها مرافاة للسفن والأساطيل، في سلاسل امداد لا ينقطع تواصلها بين صادر ووارد، والحكمة حاضرة دائما، فيستأنس بمن حوله من أهل كوكبه بتبادل الخبرات والمعارف السابقة، والاطلاع على النتائج، فلا يغتر ببريق البدايات ولمعانها في الأسباب، بل يتخذ ما انتهى إليه الآخرون من تجارب وعلوم، بعين الاعتبار، ليتحاشى الكوارث والأخطار المهولة التي أحرقت المدن على ساكنيها، فمن الخطورة بمكان أن يبدأ بنفس الصيغة التي سبقه إليها غيره وجرّت اليهمالفشل والخسران، فها هيا ديارهم لا أطلالا ولا آثارا، ومدنهم محروقة ملوثة، لم تَعُد بيئتهم صالحة للعيش والحياة، بل طاردة لها وماحقة لبركاتها وخيراتها.
ففي النظر يحافظ على ما جمعه في رحلة الشتاء والصيف، ولا يرمي بأصوله وراء البحار، يُحجّرُ عليها عند أول تنازع واختلاف بين الشركاء، وشاهد من شواهدها أموال قيصر الروس التي حُجر عليها، أو تتلقفها شركات قراصنة المال والسلاح ومنشبي الحروب لم تنشأ الا لذلك الغرض.
كل ما سبق ما هي إلا توطئة للتنمية البشرية مزرعة العقول، التي من منتجاتها شجعان العقول(فأرسل حكيما ولا توصه)، فهي الركيزة والمنطلق لعدة مفاهيم كالتنمية الاقتصادية أو التنمية الاجتماعية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنفك تلك المفاهيم أو تنفصل وتقوم مستقلة عن مفهوم التنمية البشرية، وهذا المفهوم يتمحور حول الانسان منذ ولادته وحتى دخوله سوق العمل.
فلو أخذنا من الأمم قياسا للتنمية البشرية من بعد الحرب العالمية الثانية، سيلوح في الأفق ثلاث تجارب، التجربة الأولى الرأسمالية الجافة، وإن كانت صارمة ومهيمنة إلا أن الإنسان فيها كالترس يدور حيث دارت به الآلة ويتوقف عند وقوفها، فهو ممتلئ من أرقامها ومزدحم وقته، أما روحه فخواء.
والتجربة الثانية الاشتراكية تزعم أنها أُرسلت للإنسان الفقير، فسحقت الغني والفقير معا، فسرعان فشلها وانهيارها في التأريخ وخضعت أركانها للرأسمالية وتماهت في نموذجها تلتمس الحياة من جديد.
والتجربة الثالثة الصينية التي قبضت العصا من الوسط بين التجربتين فهي رأسمالية في المادة واشتراكية في المجتمع، فبنت قوة سكانية وقوة اقتصادية، ومع ذلك فهي غير مؤمّنة، تظن أنها مشفرة تتجاوز فشلهما، بيد أنها معرّضة بأتفه الأسباب، وهرمها السكاني مقلوب إلى قاعدتها فأصبح هرِم تتساقط أسنانه، وي كأنها تُلحى أطراف عصاها وتتآكل، ليصل بها التآكل إلى ما تحت قبضة الكف، ثم تتقاسم أكلتها قبضة الأصابع، حتى تتبرم السبابة من أثر القبضة وتشتكي لإختها الإبهام.
وفي أرضنا تجربة مباركة للإنسانية ممتدة جذورها في أعماق التأريخ، وباسقة أغصانها إلى عنان السماء، تتفوق بعلمها الغيبي على علم أصحاب التجارب الثلاث التجريبي، حتى وإن رُغب لها في التزهيد وقُصدت فيه بالتقليل من قبل أصحاب التجارب الثلاث، بأن تكون تجربة نامية بمصطلحهم الذي يُغمز لها (بالعالم الثالث)، إلا أنها شجرة لا شرقية ولا غربية أصلها ثابت وفرعها في السماء، حظ تفردت به، هذا قدرها في التأسيس فنعم القدر ونعم الأساس، فلو تفطن لها أصحاب الأولى والثالثة إذ التنافس بينهما في حمى الوطيس، فلو تلاقح هذا التنافس بالمودة والرحمة مع تلك السماوية بكيفيتها لا بكيفيتهما، لنتفعا أحدهما أو كلاهما في أجلهما وصانتا قوتهما الاقتصادية عمرا مددا، أما الثانية فقد تماهت في الأولى وانتهت.
ومن منطلق هذا الامتداد، فالتركيز على محورها الأساسي هو الإنسان، فقد استهدفت التنمية البشرية بأهدافها الاستراتيجية الاستثمار المبكر في الانسان، حضانة وتربية وتعليما وتطويرا وتدريبا وصحة وأمنا ومأوا، ولم تتخطى التنمية تلك المراحل لأهمية كل مرحلة على حدة استراتيجيا على الأمن الوطني، باعتبارها أفواجا من الأجيال يدفع نموها بعض بعضا، أحسب أنها أنشأت من أجلها مؤسسات وبنيت كيانات وأنظمة يتعزز على سواعدها الأمن، فالإنسان في أهدافها هو المكسب الحيوي الأول، حينما يصبح عنصرا منتجا تتأثر بإنتاجيته بقية مناحي الحياة، الأمر الذي تنعكس انتاجيته على أمنه النفسي باعتزازه الذاتي أولاً، فيجد ذاته منتظما وسط عقد منظومته الاجتماعية، ليفخر بها ويذود عنها حياض الموت، بدءا من الاسرة وانتهاء بوطنه الأم محضن أمنه ولغة لسانه، التي شكلت هويته، إنها تبدو كحلقات سلسلة مترابطة، متى اختل تماسكها، اختل توازنها، فاختل أمنها وطمأنينتها وانهزم انسانها، فأحدث التصدع المعطل لتنميته المضيق أمامه السبل والخيارات والفرص، فتُحجب ابتكاراته وابداعه ومهاراته، التي يحتمل أن تعالج كل المشكلات، وتُحيل تحدياته إلى مواطن فرص واستثمار، من خلال حلول تناسبها، كلما اعترضت سبيله لتُعيده إلى أفضل حالاته، لتؤصد أبواب المتربصين به إلى الأبد كما فُعل بأسلافهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال