الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن التقنيات التي نشهد نشأتها وتطور تطبيقاتها الآن، مثل الذكاء الاصطناعي، وتقنية النانو، والتقنية الحيوية، والمواد القوية خفيفة الوزن، وأشباه الموصلات، لن يقل تأثيرها المستقبلي في الثورة الصناعية الجديدة الرابعة عن تأثير الآلة البخارية في الثورة الصناعية الأولى. فالآلة البخارية، التي غيّرت قواعد اللعبة، لم تظهر فجأة على يد جيمس وات، بل سبقتها محاولات متعددة منه ومن غيره منذ بداية القرن الثامن عشر حتى أخذت شكلها النهائي في آخره، وتوسعت تطبيقاتها في بداية القرن الذي تلاه. كما تكررت هذه الحالة في تطور الكهرباء، بدءًا من اكتشاف فاراداي لها، مرورًا بتطور الشبكات والمولدات وتطبيقاتها المتعددة، حتى أخذت شكلها النهائي في بداية القرن العشرين.
إن تطور هذه التقنيات، التي سترفد الثورة الصناعية الرابعة وتغير – وقد بدأت فعلا – قواعد اللعبة الصناعية، يشبه أيضًا الحالة التي شهدها العالم في رحلة تطور الكمبيوتر وتطبيقاته، منذ اختراع الترانزستور بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بداية ثورة المعلومات في نهاية القرن المنصرم.
في بداية الصناعة الحديثة، كان معظم التركيز مُنصبًا على المنتج وتطويره دون العناية بأساليب الإنتاج، حتى قام هنري فورد وغيره من رجال الصناعة بتطوير أساليب الإنتاج الحديثة التي تعتمد على تعميم المعايير ووفرة الإنتاج وخفض التكاليف. وفي الثورة الصناعية الثالثة، ساهم الكمبيوتر في تحسين عمليات الإنتاج والتحكم بها ودقة المعلومات، مما ساعد على خفض التكلفة وزيادة الإنتاج وسرعته، وتحسين الجودة وتطوير المنتجات، وتنامى تطبيقاتها وتوليد منتجات ثانوية منها.
صحيح أنه لم يكن للعالم العربي – ونحن جزء منه – أي دور في الثورات الصناعية الثلاث السابقة منذ بداية القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن العشرين، بسبب الحواجز المعرفية والعلمية والسياسية والاقتصادية التي لا تخفى على أحد. ولكن الحال الآن، وفي بداية الثورة الصناعية الرابعة مختلف، فالمعلومات متاحة، والاقتصاد متين، ورأس المال البشري قوي، والأنظمة والبيئة الصناعية التفاعلية قابلة للتطوير بقرارات سيادية سريعة وفعالة.
إن تحولنا إلى بلد صناعي متطور ليس مستحيلاً، فما استطاعت أن تفعله دول مثل كوريا وتايوان صناعياً في أواخر الثورة الصناعية الثالثة لا تعجز عن تحقيقه بلادنا في منتصف الثورة الصناعية الرابعة، وإن كان يتطلب جهداً خارقاً ونظاماً بيئياً متكاملاً لا يقع على عاتق جهة واحدة فقط، بل هو مسؤولية حضارية وأخلاقية ووطنية علينا جميعاً، وهو جزء من حاضر ومستقبل بلادنا بكل أبعاده الأمنية والدفاعية والسياسية والمدنية والاقتصادية.
ولتحقيق هذا الهدف الكبير أو جزء منه، يجب أن تكون الاستراتيجية الصناعية مبنية على ثلاث مهام أساسية تمكننا من ركوب قطار الصناعة الرابعة في بداية مسيرته، وهي مهام قريبة جداً من أهداف الصناعتين الألمانية والصينية اللتين ركزتا عليها رغم تقدمهما الحضاري وسبقهما الصناعي:
أولاً: التحسين المستمر للسياسات الصناعية، وخاصة في مجالات الضرائب والرسوم والطاقة ومدخلات الإنتاج، وتسهيل ممارسة الأعمال التجارية، وخلق المزيد من الأفكار حول كيفية اتخاذ القرارات اللازمة للمستقبل الصناعي على المستوى الوطني والاقتصاد الكلي، حتى تتمكن الشركات من إطلاق العنان لإمكاناتها والتنافس دولياً على قدم المساواة.
ثانياً: نحتاج بشكل خاص إلى تنشيط إمكانات الابتكار وجلب المزيد من الابتكارات التكنولوجية إلى عملية الإنتاج، خصوصاً في مواردنا الطبيعية مثل النفط والغاز والبتروكيماويات والمعادن. ويجب علينا جلب أو تطوير التكنولوجيات التمكينية الرئيسية – التي أشرت إليها في بداية المقال – كقوة دافعة حيوية للتغيير الهيكلي، وكأساس لمنتجات مواردنا الطبيعية بشكل خاص، وبقية الصناعات بشكل عام، والخدمات الجديدة والفعالة المتعلقة بالصناعة. وهذا الأمر يحتاج إلى خلق بيئة معرفية تفاعلية كاملة، تبدأ من التعليم، وتمرّ بالبحث والتطوير الحكومي، وحيازة التقنية إما بحثاً أو استحواذاً، وحثّ وتشجيع ودعم القطاع الخاص للاستثمار في البحث والتطوير. والأجدى أن يكون التحسين في السياسات الصناعية ودعم الصناعيين المذكور في ( أولا ) مبنيا على سياسة حوافز ومخصصاً فقط للقطاع الخاص الذي يمضى في الابتكار التقني والبحث والتطوير تشجيعا ودعما.
ثالثاً: يجب أن يسير تعزيز القدرة التنافسية للصناعة السعودية جنباً إلى جنب مع مزيد من الاستقلال التقني للمملكة، وحمايته ودعمه مهما كلف الثمن، فالاستقلال التكنولوجي ( حيازة التقنية ) هو الطريقة الوحيدة للحصول على تذكرة مقعد مميز في قطار الصناعة الرابعة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال