الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تشارك الكيمياء المستدامة في تنمية عجلة الاقتصاد الدائري. لماذا؟ كيف؟ ومتى؟ عدة أسئلة سنحاول الإجابة عليها خلال هذا المقال.
يتبع العديد من الناس الموضة في الملابس (رجال ونساء) وهذه الظاهرة تزداد يوما بعد يوم وتتغير مع مرور الزمن. وكلما تغيرت الموضة تغير الطلب في السوق ومن ثم تتغير الصناعة والمواد الأساسية تبعا لطلب المستهلك. مثال بسيط لذلك وهو صناعة الملابس، فمنها القطن الطبيعي أو الصناعي وما يسمى بالمخلوط والبوليستر وغيرها من أنواع الاقمشة. فبناء على الطلب يتم توفير ذلك من المواد الأولية وتبدأ رحلة الإنتاج والاستخدام حتى يصل المنتج الى المرحلة النهائية، بعد الانتهاء من استخدامه، وهي مرحلة التخلص منه في مرمى النفايات أو إعادة تدويره بشكل صحيح ليتم الاستفادة منه. العديد من المنتجات تتبع نفس الرحلة مثل الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر والسيارات والأثاث ومواد البناء والأدوات والمواد الطبية والصناعية وغيرها. كل ذلك ينتهي الى مرحلة النفايات. يبين الشكل رقم (1) رحلة المنتج بداية من الحصول على المادة الأولية وحتى التخلص وذلك يسمى نموذج الاقتصاد الخطي (Linear Economy) والذي نشأ مع بداية الثورة الصناعية.
ان رحلة الاقتصاد الخطي تعني رحلة منتج ما من المادة الأساسية لصناعته ثم التصنيع والإنتاج ثم المرور بالسوق كي يحصل عليها المستهلك وتبدأ مرحلة الاستخدام وهي على الأغلب المرحلة الوحيدة التي تهم المستهلك ثم في نهاية المطاف يمر بمرحلة نهاية عمل المنتج ورميه في النفايات. يبقى المنتج بعد التخلص منه محتويا على مواده الأساسية وربما لا تستطيع البيئة إعادة هذه المواد الى مكانها الأساسي بالإضافة الى استنزاف الموارد الطبيعية. فأكياس البلاستيك مثلا تبدأ رحلتها من مواد بترولية يتم تصنيعها على الشكل الذي يتناسب مع طلب المستهلك ولكنها في النهاية وعندما ينتهي المستهلك منها فإنها إذا لم يتم معالجتها بشكل صحيح – وهي معالجة مكلفة ماديا – فإنها ستبقى في البيئة دون تحلل ولمدة طويلة تصل الى مئات السنين.
هذا النموذج من الاقتصاد لا يتوافق مع رؤية المملكة 2030 ولا يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لأن استنزاف المواد الأولية من البيئة من بترول ومعادن وغيرها وعدم اعادتها الى صيغتها الأولى يعتبر تغيير للتوازن البيئي كما هو هدر للموارد الطبيعية. فلو استطعنا الإستفادة من المرحلة الأخيرة كي تستخدم كمرحلة أولى (أي يصبح المنتج الغير مرغوب فيه مصدر للمواد الأولية) ويصبح النموذج دائري بدل أن يكون خطي لكان من السهل أن نحقق الاستدامة بمعناها الحرفي. أنظر شكل رقم (2). مع العلم بأنه لا يوجد نظام لإعادة التدوير لمنتجات النفط 100% ولكن يبقى التحدي في الإبقاء على التوازن قدر المستطاع والبحث عن بدائل نظيفة مستدامة.
هناك تحدي اخر في الاستفادة من المنتج كمادة أساسية وهو التعقيد في تصنيع المنتج. فمثلا وجود العديد من المعادن والمركبات الكيميائية في أجهزة الهواتف النقالة يجعل إعادة تدويرها أمر صعب جدا. كما أن إضافة الأصباغ والملينات والمحسنات ومضادات الاكسدة وغيرها في صناعة قوارير البلاستيك تعتبر تحدي اخر وتزيد من صعوبة وتكلفة إعادة التدوير. وفي بعض حالات إعادة تدوير قوارير البلاستيك لا تصل كفاءة العملية الى 50% بسبب تعقيدات التصنيع من مواد إضافية وأصباغ وغيرها. فالتعقيد في الصناعة عدو الاستدامة. فتسهيل عمليات الصناعة بإضافة مواد بسيطة وقليلة يجعل لإعادة التدوير فرصة أكبر. مع الاخذ في الاعتبار الطاقة اللازمة لهذه العملية. وقد يتم استهلاك مادة بترولية لعمليات الطاقة تفوق تلك العائدة لنا من عمليات التكرير وتكون المشكلة قد تفاقمت بدل أن تُحل. لذا يجب البحث عن طرق صحيحة لتصبح إعادة التدوير مجدية.
إن التحدي يكمن في كيفية معالجة الأشياء الغير مرغوب فيها (تثمين النفايات Waste Valorisation) واعادتها الى مواد أولية أساسية تستخدم في صناعات متعددة دون تكلفة عالية. هذا يجعل من المنتج، وبتصميم مصنعي ذكي، يسهل إعادته الى طبيعته الأساسية والحفاظ على البيئة دون استنزاف. حسب وصف البروفيسور جيمز كلارك المدير السابق ومؤسس مركز الكيمياء الخضراء والمستدامة في جامعة يورك في بريطانيا وهو من أوائل المعامل ومراكز الأبحاث في العالم في هذا المجال فإنه يقول: ” تعتبر المنتجات والعمليات مستدامة اذا كانت المادة الخام الأساسية المستخدمة فيه قابلة لإعادة التدوير “. في نهاية المطاف يسعى الباحثون في مجال الاستدامة في البحث عن طرق مستدامة في التصميم الأساسي للعمليات كي نتمكن من إعادة تدوير المواد الأساسية والحصول على تقنية مستدامة. ويبقى إعادة الاستخدام من الأساليب الممتازة حيث يزيد من عمر المنتج وزيادة الاستفادة منه قبل مرحلة التدوير أو التخلص.
ان التزايد السكاني في العالم والزيادة في الطلب للمنتجات الاستهلاكية وخصوصا الملابس يزداد يوما بعد يوم. ففي عام 2021م كانت قيمة سوق صناعة الملابس العالمي يقدر بحوالي ١.٥ بليون دولار أمريكي سنويا وهي في زيادة تقدر بـ 5% كل عام وخصوصا مع اقبال الناس على هذه الصناعة مستخدمين ملابسهم في وقت أقل مما كان عليه العالم سابقا وذلك ينعكس على زيادة الطلب على المواد الخام وزيادة المشكلة في مرحلة النفايات. وبالمقابل فان إعادة تصنيع الملابس للاستفادة من موادها الأساسية ليس بالأمر السهل. فحوالي 60% من البوليستر الموجود في الملابس الجديدة والمكتوب عليها (مصنوعة من مواد معاد تصنيعها) تأتي من إعادة تدوير قوارير (PET polyethylene terephthalate) وليس من ملابس تم استخدامها. بمعنى أن العملية لم تعد دائرية كما نريد أن نستخدمها في نموذج الاقتصاد الدائري. إضافة الى ان إعادة تدوير الملابس ربما يستهلك طاقة عالية أو مواد أخرى بشكل كبير مما يخل بهذه الطريقة لتصبح غير مستدامة. فعلى سبيل المثال: إعادة تدوير قميص واحد من البوليستر يصاحبه ٥.٥كجم من انبعاثات كربونية. كما أن تصنيع القميص من القطن الطبيعي ليس له تأثير كبير من ناحية انبعاثات الكربون ولكنه يحتاج الى 2700 لتر من الماء وكمية كبيرة من الأسمدة لإتمام عملية الزراعة والحصاد.
لتجاوز هذه الصعوبات يجب معرفة العديد من التحديات كي يتحول المنتج بنجاح – وبعد الانتهاء منه – الى مصادره الأولية. فأول هذه التحديات أنه لم يتم تصنيع المنتج في بداية المطاف برسم خارطة تبين قصة البداية في الحصول على المواد الأساسية للتصنيع ثم الطاقة المستخدمة في الصناعة ثم في مرحلة النهاية يتم الإجابة على سؤال أين ستذهب وكيف يمكن اعادتها سيرتها الأولى؟ يقودنا ذلك الى ما يسمى بالتصميم المستدام أو (الجودة بالتصميم Quality by Design) وهو أن يتم الاخذ بالاعتبار جميع مراحل المنتج كي تصبح أكثر توافقا مع التوازن البيئي والصحة والاثر الكربوني بعد الانتها من الاستخدام. كما يمكن أن يتم رسم خارطة طريق للمنتج بداية من اختيار المصادر الخام وعمليات التصنيع والتسويق وطريقة الاستخدام والصيانة ان لزم الأمر ثم التخلص ليصبح المنتج الان قابل للتدوير بشكل مخطط له وهو ما يسمى بـ (تقييم دورة الحياة Life-cycle Assessment).
إن من الأمثلة الواضحة في الكيمياء المستدامة استخدام الميكرويف للتسخين في مجال الصناعة لما له من مميزات. الميكرويف انتقائي للمادة المراد تسخينها فمن الممكن تسخين مادة سائلة مائية في وعاء بلاستك ولا يتم تسخين الأخير بل تتركز الطاقة على الوسط المائي فقط مما يجعل الميكرويف انتقائي واقتصادي للطاقة ويختصر الوقت والجهد. مثال أخرى هو استخدام الطلاء المائي بدلا من طلاء المذيبات العضوية الطيارة والضارة بالبيئة والصحة أو ما يسمى بالطلاء الزيتي. يتميز الطلاء المائي بسرعة التجفيف وعدم ترك أي أثر صحي أو بيئي مما يجعله مفضل لدى العديد من المستخدمين. في صناعة الأدوية مثلا يتم صناعة فيتامين سي بمنتج نهائي ٢٠٪ من أصل المواد المتفاعلة وتبقى الكمية الكبيرة من التفاعل على شكل نفايات خطرة غالبا يتم التخلص منها في البيئة. تم التطوير في هذا المجال وتغيير خطوات التفاعل ليكون أكثر فعالية وأكثر ملائمة للبيئة بحيث يتم استبدال بعض المواد الكيميائية الخطرة بأخرى غير ضارة واستخدام محفزات حيوية بدلا من التفاعلات الكيميائية المعقدة. وتم الوصول الى ٥٠٪ كناتج صافي للفيتامين وباقي مواد التفاعل التي كانت تعتبر نفايات، أصبح يمكن إعادة تدويرها لتدخل في المفاعل مرة أخرى.
المبيدات الحشرية على الصعيد العالمي، دخلت في تطورات متعددة بداية من استخدام مادة (دي دي تي) الضارة على البشر والبيئة إضافة الى كونها فعالة على الحشرات الناقلة للملاريا وبعض الامراض الاخرى. وتعاقبت التطورات فيها كاستخدام المركبات المصنوعة من الفوسفات العضوية (Organophosphate Compounds) والتي تضر الانسان والحيوان ولكن ثم نوع منها وهو مالاثيون (Malathion) أقل ضررا على الانسان ولكن تبين أثره الضار على بعض الحشرات النافعة مثل النحل. وتطورت الدراسات في هذا المجال حتى تم اختراع مادة تسمى تيبوفينوزايد (Tebufenozide) حصل مخترعوها على جائزة وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) لكون هذا المنتج انتقائي للحشرات الضارة وأقل ضررا على الانسان والحيوان والحشرات الأخرى الغير ضارة كما أنه أقل ضررا على البيئة.
ضمن تحديات إعادة التدوير للقوارير المصنوعة من مادة PET هو استخدام المذيبات التي من أصل بترولي والعديد منها يعتبر سام وخطر على البيئة حيث أصبحت محاربة من المنظمات البيئية العالمية. مع وجود أبحاث وتقنيات مستدامة يمكن حل مثل هذه المشاكل. فوجود مذيبات من أصل حيوي وغير سامة مثل (TMO 2,2,5,5-tetramethyloxolane و Cyrene) يجعل من الممكن ومن السهل اجراء عمليات إعادة التدوير بشكل مستدام أفضل من ذي قبل. مؤخرا قام الباحث الصيني هوا زهو (Hua Zhou) وآخرون بجامعة تسينغوا في شنغهاي بتطوير طريقة جديدة (electrocatalysis) لإعادة تدوير قوارير البلاستيك (PET) لتصبح أكثر فاعلية وأكثر حفاظا على البيئة وذلك باستخدام المذيبات الصديقة للبيئة. كما ان استخدام الكتلة الحيوية، بالتحديد الاخشاب، كمصدر لبعض المواد الكيميائية فإنه يعتبر من الخيارات المفضلة في المصفاة الحيوية لإنتاج مواد كيميائية علما بأن الأخشاب تحتوي على 50% سليلوز فقط. حيث ان السليلوز بوليمر طبيعي من الكربوهيدرات يحتوي على جزيئات جلوكوز متعددة. ولكون القطن معظمه سليلوز (حوالي ٩٠٪) فيجعل منه خيار أمثل لاستخدامه كمصدر لإنتاج المواد الكيميائية علما بأن مثل هذه التقنية لم تزل في طور البحث ولكنها مبشرة بالخير للمستقبل القريب. ومن الأمثلة الناجحة في إعادة تدوير ملابس القطن هو تحويلها الى فيسكوس viscose وتسمى أيضا rayon وهي مادة ناعمة تصنع من ألياف السيليلوز كأشجار وغيرها ومن ضمنها نفايات القطن والورق.
وفي الختام فإنه لا يمكن التوصل الى علامات النجاح في الاقتصاد الدائري حتى يتم تنفيذ أفكار علمية وهندسية في جودة التصميم بداية من اختيار والحصول على المواد الأولية ثم طرق المعالجة الكيميائية وتصميم المصانع، من بنية تحتية وغيرها، كي تساعد الى التوصل الى بوادر نجاح هذا النموذج من الاقتصاد. الأبحاث متعددة في هذا المجال وبالأخص في أوروبا وامريكا والصين مما يجعل الحلول لمثل هذه المشاكل تردنا يوما بعد يوم. كما تمضي المملكة العربية السعودية قُدُمًا في هذا المجال وذلك تحقيقا لرؤية المملكة 2030 وتوافقًا مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
المراجع:
١. Mike Lancaster, Green Chemistry: An Introductory Text, 3rd Edition, RSC 2016
٢. http://creativecommons.org/licenses/by/4.0/
٣. https://doi.org/10.1038/s41467-021-25048-x
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال