الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أطلق عليها عالم الاقتصاد الروسي – الأمريكي تورشن أنها بداية ” نهايــة الزمان ” وستكون السبب الأول في تفكك المجتمعات المتماسكــة في المستقبل بكل تأكيــد مع السبب الآخر وهو الإفراط في الإنتاج النخبوي، وقال تورشن عن هذان السببان أنهما أعواد الأخشاب اليابسة التي تتراكم في الغابة، وستشتعل يومًــا ما في المستقبل بأول شرارة تلامس قشة صغيرة تختبئ بجوار الأكوام اليابسة، لتحرق المجتمع والنظام بالكامل. جاء تورشن بهذا رد على المؤرخ النمساوي شيدل والعديد من الرفاق الذين قالوا عنها بأنها ليست بالضرورة بأن تكون هي أحد أسباب نهاية الزمان، وليست هي من ستعمل على انهيار المجتمعات والأنظمة، فهي متواجدة على مر عصور طويلة قبل يومنا هذا، حيث تعود تاريخها من العصر البرونزي البعيد. وهي أيضًــا من بنى عليها الاقتصادي ماركس المدرسة الاشتراكية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ليرد بها على الاقتصاد الرأسمالي لأدم سميث ويبعثر بها أوراق التاريخ الاقتصادي من جديد. الحديث هنا عن تركز الثروة بين يدي النخبة في المجتمع، نقطة الضعف الكبرى للرأسمالية الحديثة والمطرقة التي يُبنى بنها نعشها الأخيــر في كل مرة تُنتقد فيه. الآن وبعد سنوات عديدة من الصياغة الأولى لها، لم تزال هي مصدر القلق والخوف الأول والداء العنيد الذي لم يستجيب لكل محاولة تشافي وزمن.
لنبدأ أولا بفهم النظام الرأسمالي والذي يعتبر الوالد لمصطلح ” تركز الثروة – Wealth Concentration “، الرأسمالية هي نظام اقتصادي يمتلك فيه الأفراد والشركات الموارد الرأسمالية ووسائل الإنتاج، ويوظف أصحاب هذه الموارد عمال مقابل أجور وليس لهم الحق في التصرف برؤوس الأموال على الأطلاق، بل يستخدمونها من أجل مصلحة من يملكها. تعتمد الرأسمالية على ما يسمى باقتصاد السوق وهو السوق الذي يتحكم به العرض والطلب لخدمة أو سلعة ما، وهو النظام الاقتصادي المعاكس تمامًا للنظام الاقتصادي المركزي الذي يتحكم به سلطــة عليها مثل الدولة أو الحكومة وليس للعرض والطلب أي دور في التسعير والإنتاج.
والرأسمالية مبنية على الملكية الخاصة، حيث تمكن الملكية الخاصة كل من الشركات والأفراد على نشر سلعهم الرأسمالية وتعزيز السيطرة والربح والنفوذ والنمو والأهم هو تحقيق المنافسة بين من يملكون رؤوس الأموال بينهم البعض في كل جوانب تحقيق العوائد المرجوة من رأس المال المملوك. النظام الوليد حديثًا بصياغته الجديدة بقلم أدم سميث يقدم مزايا خارقة من أبرزها الكفاءة في استخدام الموارد الطبيعية، انخفاض الأسعار بسبب غريزة المنافسة في النظام، ارتفاع في الأجور والمعيشة العامة والنمو الهائل في الابتكار والاختراع بهدف السيطرة على السوق والتغلب على المنافسين وتحقيق الأرباح. كل هذا البريق لم يمنع من ظهور أسوأ ما تم إنتــاجه من الرأسمالية دون دراية منها وهو تركز الثروة.
تركز الثروة هو تباين في مقدار الثروة – ليس الدخل – بين أفراد المجتمع الواحد بسبب تملك النخبة رؤوس الأموال، عدم المساواة في الثروة – وهي المخزون على عكس الدخل والذي يعني التدفق النقدي المستمر وليس مخزون متراكم – هي نقطة جدل على مدى عقود طويلة، فالمعارضين للرأسمالية – ماركس وأنجلز على سبيل المثال – يقولون بأن التركز الشديد الذي يتولد من الرأسمالية للثروة سوف يعمل على هدم النظام الاقتصادي بشكل كامل، المؤيدون للرأسمالية من جهة أخرى كمارشال وجيفن يقولون بأن التركز موجود قبل ظهور النظام الرأسمالي الحديث وعلى العكس تمامًــا فهو يحقق نمو سلبي – متناقص – عبر الزمن، لكن كلا المدرستان لم تقدم دلائل جوهرية تدعم ما يؤمنون به. تشير الدراسات العلمية أن تركز الثروة شهد نمو هائل في السنوات الأخيرة، حيث ازدادت الفجوة بين العمال ومالكي رؤوس الأموال مقارنة في القرون الأولى من ظهور الرأسمالية، جاء هذا النمو بأسباب من أبرزها فرض ضرائب أقل تصاعدية، وارتفاع أسعار الأصول، وتعميق العولمة، وتراجع القدرة التفاوضية للعمال، وزيادة الدخول العليا بشكل كبير، والدعم الحكومي الهائل لبعض القطاعات وعمليات التيسير الكمي والكثير من الأسباب التي تختلف من أمة الى أخــرى.
الولايات المتحدة – على سبيل المثال – ومنذ عصرها الذهبي إلى يومنا الحاضر تتركز الثروة والسلطة في يدي عدد قليل من العائلات ذات الثروات الهائلة، وخلال أربعة عقود فقط من نهايات القرن التاسع عشر أعادوا هؤلاء الأثرياء كتابة تاريخ الولايات المتحدة من جديد، لتكون بلد التركز والتفاوت العظيم بين الطبقات المجتمعية، استمر النمو في التباين حتى اليوم بزيادة نسبة التركز لجزء صغير من الأثرياء والقادة، وأثار بذلك الكثير من القلق والمخاوف بين صناع السياسات والباحثين والأفــراد، القلق جاء من أن احتمالية أن يتعرض الأفراد الذي يكون مكانهم في أسفل السلم الاقتصادي انخفاض في الفرص الاقتصادية وضعف في التحرك وذلك لتركز جميع القوى لدى الأثرياء، ليزداد بذلك الأثرياء ثراءً ويزداد الفقراء أسفل السلم فقرًا، لتكون بذلك الرأسمالية الحل الذي أضاف شيء ما للعالم وأساء لشيء آخر.
تعمل الدول والنظريات العلمية على التقليل والحد من زيادة التفاوت بين طبقات المجتمع وذلك من خلال بعض الإجراءات التي تفرضها على الجميع مثل ما أشارت لها جامعة كاليفورنيا، وهي رفع الحد الأدنى من الأجور يساعد على رفع مستوى الكثير من العمال ويخرجهم من مستويات الفقر المدقع. زيادة وتوسيع ضريبة الدخل المكتسب – Capital Gain Tax – يساعد على تعزيز التوزيع العادل للثروة ويرفع الدخل للعوائل الفقيرة، تشجيع السياسات التي تدعم الادخار وخفض التكاليف للأسر الفقيرة والمتوسطة ودعم الوصول السهل الى الخدمات المالية والمساكن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية يحد من زيادة الفجوة الطبقية الاقتصادية بين المجتمع، الاستثمار الفعال في التعليم وتقديمة بشكل جيد ومفيد يقلص التباين في الثروة بمرور الأجيال، تجديد شكل الضرائب بحيث تكون تصاعدية، لترتبط بترابط إيجابي مع مقدار الثروة، فكلما زادت الثروة زاد معدل الضرائب. القضاء على الفصل السكني على أساس الدخل والعرق يعزز الحراك الاقتصادي بين المجتمع الواحد، وهذا قد يعمل على تقليص حجم الفجوة. سيكون من الواجب على الرأسمالية كما أوجدت هذا التباين الفتاك أن تعمل على إيجاد الحل المناسب له ولو بعد حين، ومن المتوقع ألا تجد على الإطلاق.
اقتباس اقتصادي: ” يجب علينا قياس ازدهار أي أمة ليس بعدد أصحاب الملايين، بل بغياب الفقر، وانتشار الصحة، وكفاءة المدارس العامة، وعدد الأشخاص القادرين على قراءة الكتب المفيدة والذين يقرؤونها بالفعل “. – دبليو إي بي دو بوا
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال