الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لطالما هيمن الدولار الأمريكي على التجارة العالمية، وخاصة تجارة النفط، التي أصبحت مرتبطة تاريخيًا بالدولار فيما يعرف بمفهوم “البترودولار”. لكن التطورات الجيوسياسية والاقتصادية الأخيرة والتعسف الأمريكي في استخدام الدولار كأداة للهيمنة السياسية وفرض العقوبات على الدول أثارت ضغينة الدول وتساؤلات حول مستقبل هذه الهيمنة المبالغ فيها، وما إذا كانت الدول المنتجة للنفط ستتجه نحو استخدام عملات أخرى لتسعير صادراتها النفطية، ولا يخفي العديد من دول العالم بما فيها دول البريكس سعيهم الآن إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي كوسيلة لتعزيز استقلالها الاقتصادي وحمايتها من التقلبات الاقتصادية والسياسية الأمريكية. هذه المقالة تستعرض بشكل سريع جذور هذه الهيمنة، وأسباب الرغبة في التغيير، وكذلك التحديات المرتبطة بها، والبدائل المحتملة في عالم يتزايد فيه الحديث عن التعددية المالية.
تاريخ تسعير النفط بالدولار “الذهبي” الأمريكي
تعود هيمنة الدولار إلى اتفاقية بريتون وودز عام 1944، التي رسخت الدولار كعملة احتياط عالمية بربطه بالذهب بقيمة ثابتة وهي 35 دولاراً لأونصة الذهب وذلك بعد خروج الولايات المتحدة كأقوى اقتصاد عالمي بعد الحرب العالمية الثانية، مما عزز مكانة الدولار والتوسع في اقتناؤه كما يقتنى الذهب، ورغم أن الولايات المتحدة فكت ارتباط الدولار بالذهب في عام 1971 بقرار مفاجئ للرئيس ريتشارد نيكسون، ظل الدولار مهيمنًا على التجارة الدولية، وبالأخص تجارة النفط.
وفي عام 1974، بعد الحرب العربية لتحرير فلسطين وقطع البترول عن الدول الغربية الذين ساندوا الكيان الصهيوني ضد العرب أبدت الولايات المتحدة الامريكية قبولها وتفهمها لبعض المطالب العربية العادلة وكذلك أسباب اخرى، تم تعزيز مكانة الدولار في تجارة النفط بشكل أكبر بفضل ابداء أمريكا مرونة للتفاهم وكذلك لقوة أمريكا الاقتصادية والتي تعتبر اقوى اقتصاد في العالم ولا تزال هي المهيمنة، واستيعابها للاستثمار الاستراتيجية الضخمة من عوائد البترول ، والتي أدت إلى تسعير النفط بالدولار الأمريكي بشكل حصري، مما زاد من قوة الدولار في الأسواق العالمية وربط اقتصادات الدول المنتجة للنفط بالنظام المالي الأمريكي. هذه الخطوة دعمت أيضًا الاستثمار المتزايد في السندات الأمريكية، وهو ما ساهم في تعزيز مفهوم “البترودولار”.
أسباب السعي لتغيير عملة تسعير النفط
مع مرور الزمن، بدأت تتزايد الأسباب والدوافع التي تحث الدول المنتجة للنفط على البحث عن بدائل لتسعير نفطها بغير الدولار. ومن أبرز هذه الأسباب هو استخدام الولايات المتحدة هيمنة الدولار كأداة ضغط سياسي واقتصادي على دول العالم، مما يدفع بعض الدول إلى البحث عن بدائل لتجنب هذه الهيمنة، وخاصة في ظل العقوبات الاقتصادية التي توسعت فيها في الآونة الأخيرة كذلك التضخم المتزايد في الولايات المتحدة في الاقتصاد الأمريكي الذي يؤدي إلى ضعف قيمة الدولار المتهالك حيث تبلغ قيمة الدولار الفعلية الى اقل من 65 ضعف مما كانت علية في عام 1971 (القيمة الحالية / القيمة السابقة = معامل التضاعف 2300 دولار / 35 دولار = حوالي 65 (اونسة الذهب الان بمبلغ 2300 دولار بينما كانت اونسة الذهب ب 35 دولار عام 1971)، مما يعرض الدول المنتجة للنفط لخسائر في عائداتها، وبالتالي تتطلع هذه الدول إلى بدائل أكثر استقرارًا لحماية استثماراتها.
إضافة الى ذلك هو صعود العملات البديلة مثل اليوان الصيني والروبل الروسي، حيث تعمل الصين وروسيا على تعزيز دور عملاتهما في التجارة العالمية، مستفيدة من علاقاتها الاقتصادية مع الدول المنتجة للنفط، وخاصة تلك التي تبحث عن تعزيز نفوذها الاقتصادي. ولا شك أن الدول المنتجة للنفط ترغب في الاستقلال الاقتصادي وتتطلع هذه الدول إلى تقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز استقلاليتها الاقتصادية والسياسية، خاصة مع زيادة وعيها بتأثير العوامل الخارجية على اقتصادها.
التحديات التي تواجه تغيير عملة تسعير النفط
على الرغم من أن هذه الأسباب تدفع نحو تغيير عملة تسعير النفط، فإن هناك تحديات كبيرة تعترض هذا التحول الى عدد من التحديات وأبرزها هو هيمنة التاريخية للدولار حيث يمثل الدولار جزءًا أساسيًا من البنية التحتية المالية العالمية، وقد ترسخت هيمنته على مدى عقود، مما يجعل أي تحول محفوفًا بالمخاطر. كذلك البنية التحتية المالية العالمية حيث يحتاج التحول إلى عملة جديدة لتسعير النفط إلى بناء أنظمة دفع وتسوية مستقرة وموثوقة على المستوى العالمي، وهو تحدٍّ كبير يتطلب استثمارات ضخمة وتعاونًا دوليًا طويل الأمد يحفوه مخاطر جيوسياسية كبيره لأن الولايات المتحدة لها مصالح استراتيجية في الحفاظ على هيمنة الدولار وقد تستخدم نفوذها السياسي والاقتصادي وحتى العسكري للحيلولة دون هذا التغيير. كما أن النزاعات الدولية تزيد من تعقيد هذا التحول، وخاصة في ظل التوترات بين الولايات المتحدة وخصومها مثل الصين وروسيا.
البدائل المحتملة للدولار
مع تزايد الحديث عن احتمالات التحول إلى عملات أخرى في تسعير النفط، يتم طرح عدة بدائل محتملة للدولار كالعملة الصينية “ليوان الصيني” وهو يُعد البديل الأكثر وضوحًا للدولار، حيث تسعى الصين إلى تعزيز دور عملتها في الاقتصاد العالمي، وخاصة من خلال الاتفاقيات التجارية الثنائية ومبادرات مثل “الحزام والطريق”، والصين أيضًا تعمل على بناء بنية تحتية مالية قوية لدعم التداول باليوان في الأسواق الدولية.
وقد قد يصبح الروبل الروسي خيارًا محتملاً إذا تم ربطه بالذهب، مما يعزز من استقراره ويجعله أكثر جاذبية على المستوى الدولي. لكن روسيا تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالثقة الدولية في عملتها في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
وقد تفكر بعض الدول في العودة إلى ربط النفط بالذهب، مما يمنح العملة المستخدمة في التجارة قيمة حقيقية تعزز من استقرارها، لكن ربط العملة بالذهب قد يكون صعب التطبيق في النظام المالي الحديث وربما يكون مع سلة من العملات. كما ان العملات المشفرة مثل البتكوين أو العملات الحكومية الرقمية قد تصبح بديلاً مستقبليًا لتسعير النفط، خاصة مع تطور التكنولوجيا المالية. لكنها تواجه تحديات تتعلق بالتقلبات العالية في قيمتها والتنظيم الحكومي.
الآثار المحتملة لتغيير عملة تسعير النفط
إذا قررت الدول المنتجة للنفط التحول إلى عملات أخرى غير الدولار، فإن هناك آثارًا اقتصادية وسياسية محتملة على النظام المالي العالمي حيث قد يؤدي تعزيز استخدام عملات أخرى مثل اليوان أو الروبل إلى خلق نظام مالي دولي متعدد العملات، بدلاً من الاعتماد الكامل على الدولار وينعكس ذلك على زيادة عدم الاستقرار في أسواق النفط لأن أي تغيير في النظام الحالي قد يؤدي إلى تقلبات كبيرة في الأسعار، حيث قد تصبح الأسواق أكثر حساسية للتغيرات السياسية والاقتصادية. كما أن تلك التحولات قد تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات التجارية بين الدول المنتجة والمستهلكة للنفط، وربما تؤثر على ديناميكيات التجارة العالمية.
هل تصب هذه الخطوة في مصلحة الدول المنتجة للنفط؟
لا شك بأن تغيير عملة تسعير النفط قد يوفر فرصًا للدول المنتجة لتنويع استثماراتها والحد من تأثير التقلبات الاقتصادية الأمريكية، ومع ذلك فإن هذا التحول محفوف بالمخاطر لأن التحول إلى عملات جديدة غير مستقرة أو ذات قبول عالمي محدود قد يؤدي إلى تقلبات في العوائد وأسواق النفط.
وفي الختام، فرغم أن فكرة استبدال الدولار بعملات أخرى في تسعير النفط بدأت تكتسب زخمًا، فإن هذا التحول يتطلب تغييرات جذرية في النظام المالي العالمي والتدرج في ذلك يحتاج الى وقت ليس بالقصير نظراً لأن هيمنة الدولار تستند إلى قوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية ولا يمكن تقويضها بسهولة. ومع ذلك، فالمشاكل الامريكية الداخلية والتوترات الجيوسياسية، وصعود العملات الرقمية، وتنامي نفوذ الصين وروسيا وتبوأ البريكس كمجموعة اقتصادية تتزايد أهميتها قد تؤدي في العقود القادمة إلى تحولات تدريجية، لكنها لن تحدث دون تحديات كبيرة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال