الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كما ذكرنا سابقاً، تعد النظرية النقدية الحديثة (MMT) من أبرز الأطر النظرية الحديثة في الاقتصاد الكلي التي تثير اهتماماً متزايداً. تقترح هذه النظرية إمكانية تمويل الإنفاق الحكومي مباشرة عبر إصدار العملة الوطنية بدلاً من الاعتماد التقليدي على الضرائب أو الاقتراض من الأسواق المالية، بشرط القدرة على السيطرة على التضخم. تعتمد هذه النظرية على السيادة النقدية للدولة، والتي تتطلب وجود عملة مستقلة وسعر صرف مرن يسمح بتحقيق استقلالية كاملة في السياسة النقدية والمالية. وعلى النقيض، تعتمد المملكة العربية السعودية على نظام سعر الصرف الثابت، حيث يُربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي بسعر صرف محدد عند حوالي 3.75 ريال للدولار الواحد. يفرض هذا النظام على البنك المركزي السعودي التدخل المستمر في سوق الصرف الأجنبي باستخدام احتياطياته من العملات الأجنبية للحفاظ على استقرار الربط، مما يقيد قدرة المملكة على اتباع سياسات نقدية مستقلة، وهو ما يتعارض مع متطلبات النظرية النقدية الحديثة.
يعتمد الاقتصاد السعودي بشكل كبير على إيرادات النفط، التي تشكل المصدر الأساسي للإيرادات الحكومية وتؤثر بشكل مباشر على الميزانية العامة للدولة. هذا الاعتماد يجعل الاقتصاد السعودي عرضة لتقلبات كبيرة في الإيرادات الحكومية، لا سيما في فترات انخفاض أسعار النفط، مما يحد من مرونة السياسة المالية. في ظل نظام سعر الصرف الثابت، تصبح القدرة على تطبيق سياسات مالية توسعية محدودة، حيث إن أي زيادة في المعروض النقدي دون تعزيز الاحتياطيات الأجنبية قد يؤدي إلى ضغوط على سعر الصرف الثابت ويهدد استقراره. وهذا الوضع يفرض قيوداً على قدرة المملكة على استخدام السياسة المالية والنقدية بمرونة لتعزيز النمو الاقتصادي أو تحقيق التوظيف الكامل، وهو جوهر مبادئ النظرية النقدية الحديثة.
تواجه المملكة تحديات كبيرة في تطبيق مبادئ النظرية النقدية الحديثة، إذ يتطلب نظام سعر الصرف الثابت توجيه السياسة النقدية بشكل رئيسي نحو الحفاظ على استقرار العملة، بدلاً من التركيز على تحقيق أهداف اقتصادية داخلية مثل النمو المستدام أو التوظيف الكامل. أي توسع نقدي غير مدروس قد يؤدي إلى تآكل الاحتياطيات الأجنبية وزيادة مخاطر التضخم، مما قد يؤثر سلباً على قيمة الريال السعودي أمام الدولار ويؤدي إلى خروج رؤوس الأموال، مما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي. هذه التحديات تجعل تبني النظرية النقدية الحديثة محفوفاً بالمخاطر، حيث إن التضخم الناتج عن السياسات المالية التوسعية يمكن أن يضعف القدرة التنافسية للصادرات السعودية ويرفع تكلفة الواردات، مما قد يؤدي إلى اختلالات في الحساب الجاري وضغوط إضافية على سعر الصرف الثابت.
علاوة على ذلك، يعتمد النظام البترودولاري، الذي يعتمد على تسعير النفط بالدولار الأمريكي، على توفير استقرار نسبي للإيرادات الحكومية ويعزز احتياطيات المملكة من العملات الأجنبية. ورغم أن هذا النظام يسهم في استقرار المالية العامة على المدى القصير، إلا أنه يقيد المرونة النقدية اللازمة لتطبيق مبادئ النظرية النقدية الحديثة، إذ يربط الاقتصاد السعودي بشكل وثيق بتقلبات أسعار النفط وسعر الدولار. بينما يوفر النظام البترودولاري استقراراً مالياً فورياً، إلا أنه يحد من قدرة المملكة على تبني سياسات اقتصادية أكثر استقلالية تتماشى مع مبادئ النظرية النقدية الحديثة.
لتبني مبادئ النظرية النقدية الحديثة، تحتاج المملكة إلى إجراء إصلاحات هيكلية جوهرية تشمل التحول نحو نظام سعر صرف أكثر مرونة، مما يسمح باستقلالية أكبر في السياسة النقدية. كما يتطلب الأمر تنويع الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد المفرط على النفط، من خلال تطوير القطاعات غير النفطية وتعزيز الصناعات والخدمات المحلية، مما يقلل من الاعتماد على إيرادات النفط ويحسن قدرة الاقتصاد على التكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. هذا التنويع من شأنه تعزيز قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات الخارجية ويوفر مجالاً أوسع لتطبيق سياسات مالية ونقدية أكثر توافقاً مع المتغيرات الداخلية.
في الختام، يواجه تطبيق النظرية النقدية الحديثة في السعودية عقبات جوهرية تتعلق بالبنية الاقتصادية الحالية، ولا سيما نظام سعر الصرف الثابت والاعتماد الكبير على إيرادات النفط. لتحقيق المواءمة مع مبادئ النظرية النقدية الحديثة، ينبغي على المملكة المضي قدماً في إصلاحات هيكلية شاملة تعزز مرونة الاقتصاد وتدعمه بالتنويع، مما يهيئ بيئة أكثر ملاءمة لتبني سياسات نقدية ومالية أكثر تحرراً واستجابة للتحديات الاقتصادية المعاصرة. إن تحقيق هذا التحول يتطلب رؤية استراتيجية وإرادة سياسية قوية، بالإضافة إلى القدرة على التكيف مع البيئة الاقتصادية الدولية. ومع سعي المملكة لتحقيق أهداف رؤية 2030، فإن هذه الإصلاحات قد توفر الأساس اللازم لتبني سياسات اقتصادية أكثر مرونة وشمولية، مما يدعم تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال