الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما بدأ مصمم الألعاب الشهير “وليام رايت” في بناء النماذج الأولية للعبة SimCity، لم يكن يتوقع أن تتجاوز استخدامات هذه اللعبة حدود الترفيه، خاصة وأن دافعه في ذلك الوقت لتصميم مثل هذه الألعاب كان نابعًا من حبه لرسم الخرائط، الذي عبر عنه في أول لعبة صممها معروفة بـ “Raid on Bungeling” (غارة على بونجلينغ).
ظهرت لعبة SimCity لأول مرة في عام 1989، بعد أن طورتها شركة Maxis Business Simulations. ترتكز اللعبة على تجسيد افتراضي لإدارة مدينة افتراضية، حيث يؤدي اللاعب دور “عمدة” المدينة، ويتعين عليه توسيع المدينة باستخدام الميزانية المخصصة. وكلما نضجت المدينة وتوسعت، يستطيع العمدة إضافة مبانٍ حكومية وخاصة، وفقًا لكفاءته في استغلال الموارد المتاحة. أحد عوامل النجاح في اللعبة هو قدرة العمدة على إدارة المدينة، وتزويد السكان بالخدمات الأساسية مثل الكهرباء، والمياه، وإدارة النفايات، إلى جانب الخدمات العامة كالصحة والتعليم والترفيه. يفشل العمدة في مهمته عندما تقل كفاءته في إدارة هذه الموارد، مما يؤدي إلى تذمر السكان الافتراضيين وتدهور المدينة.
حققت لعبة SimCity نجاحًا كبيرًا بعد إطلاقها في عام 1989، حيث تجاوزت مبيعاتها 5 ملايين دولار في أول عامين. لم يكن النجاح مقتصرًا على الجانب المالي والترفيهي فقط؛ بل أثرت اللعبة أيضًا على الطريقة التي يفكر بها الناس-خاصة الأكاديميين وأصحاب الأعمال-حول جدوى المحاكاة الحاسوبية في مجالات غير الترفيه. ساعدت اللعبة العديد من الأشخاص على بناء نماذج ذهنية لفهم كيفية عمل المدن وارتباط مكوناتها ببعضها البعض. حفز هذا النجاح بعض الشركات لطلب تطوير نماذج محاكاة لأغراض محددة. من أبرز هذه الشركات شركة شيفرون، التي طلبت إصدار نموذج لمحاكاة ديناميكيات إدارة مصافي النفط، لتمكين موظفيها من محاكاة التغيرات المؤثرة على هذه الصناعة مثل جدولة الصيانة، والتعامل مع التوقف المفاجئ، وإدارة الكوارث. استجابت شركة Maxis لهذا الطلب بإصدار SimRefinery في عام 1993.
يمكن القول إن هذا الإصدار لشركة شيفرون قد ساعد في استمرار نجاح لعبة SimCity، حيث أصدرت عدة نسخ تحت مسميات مختلفة، منها SimEnvironment التي طورت لوكالة البيئة الأمريكية، وSimSite لإدارة إغلاق إحدى القواعد العسكرية، وSimPower لنمذجة تشغيل شبكة الكهرباء، وSimHealth التي طورت بطلب من مؤسسة ماركل لتطوير سياسات الصحة والسياسات العامة.
قطاع التعليم كان من السباقين في الاستفادة من هذه اللعبة، وكانت جامعة كامبريدج من الجهات التي رأت في هذه اللعبة مجالاً واسعاً لزيادة فعالية التعليم من خلال تدريس الطلاب مفاهيم الحوكمة. في دراسة نشرت عام 2023 بعنوان “تأثير استخدام لعبة الفيديو SimCity على تطوير التفكير النقدي لدى الطلاب: منهج تجريبي كمي”، توصلت الدراسة إلى أن استخدام اللعبة أدى إلى تحسين التفكير النقدي لدى الطلاب، خاصة في مجال تقديم الاستدلالات وتقييم الحجج وتفسير المعلومات.
في سياق مشابه، أحد إصدارات “كلية الخدمة المدنية” بسنغافورة تناول كيفية استخدام الألعاب في تصميم واختبار السياسات في مجالات متنوعة مثل التعليم والصحة. أشارت الكلية في تقريرها ضمن سلسلة “ETHOS” إلى أن الألعاب أصبحت أداة قوية لاكتساب المهارات والمعرفة التي يصعب تعليمها بالطرق التقليدية. حدد التقرير ثلاثة عوامل رئيسية لاستخدام الألعاب في تصميم السياسات:
المعرفة الضمنية (Tacit Knowledge): تساعد الألعاب في نقل المعرفة الضمنية، وهي تلك المعرفة التي تكتسب من خلال التجربة ولا يمكن التعبير عنها بسهولة بالكلمات. على سبيل المثال، استخدم البنك المركزي الأمريكي الألعاب لزيادة وعي المواطنين بكيفية التعامل مع الأزمات المالية، حيث يكتسبون من خلالها مهارات اتخاذ القرارات تحت الضغط.
التعبير عن المشاعر (Emotional Expression): تتيح الألعاب للاعبين التعبير عن مشاعرهم والتفاعل مع سيناريوهات تحاكي المواقف الواقعية، مثل المحاكاة التي أطلقتها إذاعة بي بي سي لرحلة بعض السوريين “Syrian Journey”، الذين قرروا البحث عن ملاذ آمن في أوروبا بعيدًا عن الاضطرابات.
تقليص الفجوات (Bridging Gaps): تساعد الألعاب في تقليص الفجوات بين النظرية والتطبيق، وكذلك بين مختلف أصحاب المصلحة، من خلال بيئة مشتركة للتعلم والتفاعل. على سبيل المثال، بدأت إحدى المدارس الأمريكية في استخدام محاكاة TeachLive، التي تتيح للمعلمين ممارسة إدارة الفصول الدراسية والتفاعل مع الطلاب في سيناريوهات تحاكي المواقف الواقعية.
جذبت هذه النجاحات في استخدام الألعاب لاختبار السياسات في مجالات مختلفة انتباه عدة حكومات، منها الحكومة البريطانية، التي بدأت في استخدام أدوات مبتكرة مثل “الألعاب الجادة” (Serious Games) لتحسين عملية صنع السياسات العامة، والتي طورت لعبة “المزرعة الخيالية Fantasy Farm”. هذه اللعبة صُممت لمحاكاة تعقيدات السياسات العامة، وتتيح لصناع السياسات المشاركة في بيئة تفاعلية، واستخدام سيناريوهات مختلفة لمعرفة أثر سياسة أو قرارا على أصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص قبل تنفيذها فعلياً.
في الماضي، كان العديد من الناس يربطون الألعاب بالترفيه فقط، ولكن المؤشرات الحديثة تثبت أنها أداة فعالة لتعليم المهارات والمفاهيم المعقدة. تتيح الألعاب للاعبين فرصة التجربة واتخاذ القرارات، ورؤية نتائج أفعالهم في بيئة تكاد تخلو من المخاطر.
في سياق رؤية المملكة 2030 ومستهدفات التحول الرقمي، يمكن للمؤسسات التعليمية أن تلعب دورًا مهمًا في تبني هذا النهج. معظم السياسات العامة اليوم موجهة للأجيال القادمة، التي ستنخرط في المنظومة الاقتصادية بعد إكمال التعليم الثانوي والجامعي. لذا، فإن استخدام الألعاب كأداة لتعليم وتدريب هذه الأجيال يمكن أن يساهم في إعدادهم لاتخاذ قرارات فعالة وصائبة في المستقبل.
أخيرًا، تشير تقارير حديثة إلى أن المملكة العربية السعودية أصبحت موطنًا لـ 23.5 مليون شخص من عشاق ألعاب الفيديو، وهو ما يمثل 67% من إجمالي عدد السكان. أنفق هؤلاء ما قيمته 3.75 مليار ريال في عام 2023، ومن المتوقع أن يصل هذا الإنفاق إلى 10 مليارات ريال بحلول عام 2026. تعكس هذه الأرقام أهمية الألعاب في المجتمع السعودي، مما يعزز من أهمية استثمارها في تطوير المهارات وصنع السياسات العامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال