الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تمهيد:
لا يمكن لأي عين منصفة أن تنكر ما تشهده الساحة العالمية من تطورات تسجل وتستقبل صعود المملكة العربية السعودية كقوة عالمية نتيجة للجوهر التحويلية الرشيدة وغير المسبوقة التي عكف عليها صاحب السمو الملكي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان. وكعادتها كأمة عظيمة، تجد المملكة نفسها في لحظة فاصلة من لحظات التاريخ المحورية حيث نصبها تقدمها المطرد بوتيرة متسارعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية كمثال للتنمية في الشرق الأوسط، مما جعلها موضع إعجاب الأمم من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل أن هذا النمو السريع تصاحبه تحديات متزايدة من الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية. في هذه البيئة الجيوسياسية المعقدة، من الأهمية بمكان أن تتبنى المملكة العربية السعودية نهجًا استراتيجيًا لتوظيف القانون كسلاح في خدمة مصالحها والزود عنها وهو ما جرت العادة على تسميته بالحرب القانونية – وهو مفهوم تزايد استخدام دول رائدة له مثل الولايات المتحدة والصين كأداة حاسمة في حماية المصالح الوطنية لهذه الدول.
فهم الحرب القانونية: سلاح نفوذ حديث
في الواقع فليست الحرب القانونية بمفهوم جديد، حيث كانت النظم القانونية والمبادئ القانونية تُستخدم كأدوات وأسلحة للقوة الوطنية، ولكنها اكتسبت أهمية في السنوات الأخيرة حيث تسعى الدول إلى تحقيق أهدافها من خلال الوسائل القانونية بدلا من الأدوات العسكرية التقليدية، بمعنى أن القلم حل محل الرصاصة. بعبارة أخرى، فالحرب القانونية هو الاستخدام الاستراتيجي للأنظمة القانونية، المحلية والدولية على حد سواء، لتحقيق هدف عسكري أو سياسي. وغالبًا ما ينطوي على استخدام الوسائل القانونية للحد من قدرة الخصم على العمل، أو نزع الشرعية عن أفعاله، أو فرض قيود قانونية على أنشطته. يمكن شن القانون من خلال التقاضي أو المعاهدات الدولية أو العقوبات القانونية أو من خلال التأثير على وضع أحكام القانون الدولي وتفسيرها.
وكتصنيف الأسلحة التقليدية كأسلحة هجومية ودفاعية، فالحرب القانونية على نفس المنوال يمكن أن تكون سلاحًا هجوميًا ودفاعيًا، اعتمادًا على طبيعة التهديد أو التحدي. بالنسبة لدول مثل الولايات المتحدة والصين، أصبحت الحرب القانونية استراتيجية أساسية في تعاملها مع عدد كبير من القضايا، والتي تتراوح فيما بين تهديدات الأمن السيبراني إلى النزاعات التجارية الدولية.
وعليه فبالنسبة للمملكة العربية السعودية، لم تعد صياغة استراتيجية للحرب القانونية مجرد خيار، بل هي ضرورة، وتزادا أهمية هذه الاستراتيجية في ظل ما تواجهه المملكة من تحديات على جبهات متعددة، بما في ذلك حرب المعلومات، والمنافسة الاقتصادية، ولا يمكننا استبعاد مواجهتها لنزاعات قانونية دولية، وحينها وفي ظل هذه التحديات، فلا مفر من استحداث استراتيجية للحرب القانونية جيدة الصياغة تمكنها من حماية مصالحها وإبراز نفوذها على الساحة العالمية.
مجالات القانون السعودي: نهج متعدد الأوجه
بالنظر للتحديات المتنوعة التي تواجهها المملكة (والتحديات الإضافية التي ستواجهها حتما مع نمو مكانتها الدولية)، يتعين أن تكون استراتيجية الحرب القانونية في المملكة العربية السعودية شاملة، وتشمل مجالات متعددة مما يمكنها من مواجهة كل هذه التحديات.
وفي عصر الحرب الرقمية، تعد المعلومات أحد الأسلحة القوية ومن هذا المنطلق يجب على المملكة العربية السعودية تطوير أطر قانونية للدفاع ضد الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل وغيرها من أشكال العدوان الرقمي. ويشمل ذلك إنشاء آليات قانونية لمواجهة الأخبار السلبية الصادرة عن وسائل الإعلام الغربية وغيرها من المصادر التي تسعى إلى تقويض سمعة المملكة.
كمركز عالمي للاستثمار، يقع على عاتق المملكة العربية السعودية المسؤولية عن حماية مصالحها الاقتصادية من خلال الاستخدام الاستراتيجي لقوانين التجارة الدولية، ومعاهدات الاستثمار. وهذا يشمل الدفاع ضد ممارسات التجارة غير العادلة وضمان صد محاولات القوى الخارجية لإعاقة النمو الاقتصادي للمملكة. يتم تنظيم الاقتصاد العالمي بشكل متزايد من خلال أطر قانونية معقدة، وتوفر الحرب القانونية وسيلة للتنقل بين هذه القواعد وتطويعها لخدمة مصالح المملكة العربية السعودية. يمكن للحرب القانونية حماية المصالح الاقتصادية للمملكة على الساحة العالمية سواء من خلال تحدي الممارسات التجارية غير العادلة، أو حماية حقوق الملكية الفكرية، أو الدفاع ضد المطالبات القانونية التي تهدد استقرارها الاقتصادي.
يتحقق تعزيز المملكة العربية السعودية لموقفها في القانون الدولي من خلال المشاركة الفاعلة في المعاهدات والمنظمات المتعددة الأطراف. على سبيل المثال، يمكن للمملكة العربية السعودية تبني موقف استباقي والنظر في اقتراح معاهدة دولية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي مما يتيح لها التأثير على المعايير القانونية العالمية. كما أن اتخاذ موقف استباقي في القانون الدولي سيمكن المملكة العربية السعودية من التعامل مع التحديات القانونية في مهدها قبل أن تتصاعد إلى قضايا خطيرة.
يبين لكل ذي لب أن كلا من الدبلوماسية والقانون هما أداتان متكاملتان، وبينما تركز الدبلوماسية على التفاوض والحوار، يمكن أن توفر الحرب القانونية الأساس القانوني لدعم المواقف الدبلوماسية. على سبيل المثال، في المفاوضات حول النزاعات الإقليمية أو الاتفاقيات التجارية، يمكن للمملكة العربية السعودية استخدام القانون لتعزيز قدرتها على المساومة، وضمان الامتثال للمعايير القانونية الدولية، وتأمين تحقيق نتائج إيجابية.
من خلال المشاركة الفاعلة في المحافل القانونية الدولية، يمكن للمملكة العربية السعودية التأثير على تطوير القانون الدولي على نحو يتماشى مع مصالحها الوطنية. وقد يشمل ذلك الدعوة إلى وضع قواعد قانونية تحمي سيادة الدولة، أو تحدي التفسيرات القانونية التي تهدد أمنها، أو دعم الأطر القانونية التي تعزز الاستقرار الإقليمي.
الحرب القانونية الدفاعية والهجومية: موازنة الاستراتيجية مع التخطيطات
توفر الحرب القانونية الإطار اللازم للرد على هذه التحديات من خلال الوسائل القانونية، سواء من خلال الطعن في المطالبات في المحاكم الدولية، أو الاستفادة من القانون الدولي لدعم المواقف السعودية، أو الانخراط في الدعاوى المقابلة في مواجهة الخصوم، وعليه يلزم أن تجمع استراتيجية المملكة العربية السعودية بين المنحى الدفاعي والهجومي على حد سواء، وأن تُصمم خصيصًا لمواجهة التحديات. ويحضرني هنا على سبيل المثال، أنه في حالة التغطية الإعلامية السلبية، يمكن للمملكة استخدام الحرب القانونية باستخدام قوانين التشهير (في ولايات قضائية أخرى) ولوائح وسائل الإعلام الدولية لحماية صورتها. وفي الوقت نفسه، يمكنها تبني نهج هجومي من خلال إنشاء منفذ إعلامي عالمي المستوى على غرار قناة الجزيرة القطرية أو آر تي الروسية. ومن شأن هذه المنصة أن تسمح للمملكة العربية السعودية بعرض روايتها على مستوى العالم، وعرض التطورات الإيجابية التي تحدث في المملكة ووضعها كرائدة في مجال الاستثمار وجودة الحياة.
مهمة التدريب القانوني والقوة الناعمة في القانون السعودي
لتنفيذ استراتيجية قانونية فعالة، يجب على المملكة العربية السعودية الاستثمار في التدريب القانوني كقطاع قائم بذاته. ويشمل ذلك منح دورات تثقيفية وتدريبية للوزارات والمسؤولين المعنيين في مختلف جوانب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي العام والخاص، والقانون الإنساني الدولي، والقانون الجنائي الدولي، والمحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية. ومن شأن هذا الكادر القانوني المدرب جيدًا أن يهب المملكة القدرة على مواجهة التحديات القانونية المعقدة بثقة وصلاحية. ومن أجل نشر مفاهيم الحرب القانونية نشرًا فعالًا، من الضروري أن تكون الوزارات المعنية والخبراء القانونيون وأفراد القوات المسلحة على دراية جيدة بمبادئها وتطبيقاتها مما يستدعي برامج تدريبية شاملة تركز على المجالات التالية.
يجب تثقيف المسؤولين السعوديين حول كيفية استخدام الحرب القانونية على مستوى العالم، وخاصة من قبل القوى الكبرى والخصوم الإقليميين، ويتضمن ذلك طرح أمثلة من الحالات القائمة، وفهم التكتيكات القانونية المستخدمة، وتحليل نتائج مختلف استراتيجيات الحرب القانونية.
يجب ألا يمتلك الموظفون المشاركون في الأعمال القانونية الخبرة القانونية فحسب، بل يجب أن يمتلكوا أيضا القدرة على التفكير الاستراتيجي في كيفية استخدام الأدوات القانونية لتحقيق الأهداف الوطنية. ولذلك ينبغي أن يشمل التدريب دورات في القانون الدولي، والقانون العسكري، والجزاءات الاقتصادية، والتطبيق الاستراتيجي للمبادئ القانونية في العلاقات الدولية.
يتطلب استخدام القانون كسلاح تنسيق الجهود بين مختلف فروع الحكومة، بما في ذلك وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووزارة العدل. يجب أن تركز برامج التدريب على التعاون بين الوزارات، وضمان توافق الاستراتيجيات القانونية مع الأهداف الدبلوماسية والعسكرية.
يمكن أن تساعد التمارين العملية، مثل الألعاب الحربية أو المحاكاة القانونية، الأفراد على ممارسة تكتيكات القانون في بيئة خاضعة للرقابة. يمكن تصميم هذه السيناريوهات لتعكس التحديات المحددة التي تواجهها المملكة العربية السعودية، مما يسمح للمسؤولين باختبار استراتيجياتهم وتحسينها في الوقت ذاته.
علاوة على ذلك، لا ينبغي أن يقتصر استخدام القانون كسلاح على التكتيكات القانونية والدفاعية بل أن استعراض القوة الناعمة أمر بالغ الأهمية وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تعزيز دبلوماسيتها الثقافية وتوسيع نفوذها في المحافل العالمية، ويمكن للمملكة العربية السعودية بناء تحالفات ورعاية النوايا الحسنة، والتي ستكون مفيدة في مواجهة التصورات السلبية وتعزيز مصالح المملكة.
الخلاصة: نهج استباقي لقوة صاعدة
تتزايد التحديات تعقيدًا ونطاقًا والتي من المنتظر أن تجابه الملكة مع استمرار المملكة العربية السعودية في الصعود على الساحة العالمية كطرف رئيس. وللتغلب على هذه التحديات بفعالية، يجب على المملكة أن تتبنى موقفًا استباقيًا من خلال تطوير أول استراتيجية لها للحرب القانونية. لن تحمي هذه الاستراتيجية مصالح المملكة العربية السعودية فحسب، بل ستمكنها أيضا من إبراز نفوذها على الساحة العالمية.
إن الحرب القانونية ليست استراتيجية قائمة بذاتها ولكنها عنصر حيوي في مجموعة أدوات شاملة للدفاع الوطني والسياسة الخارجية. بالنسبة للمملكة العربية السعودية، يمكن أن يؤدي دمج القانون في إطارها الاستراتيجي إلى تعزيز قدرتها بشكل كبير على مواجهة التحديات، وحماية مصالحها، والتأثير على النظام القانوني الدولي. ومع ذلك، فإن النشر الفعال للقواعد القانونية يعتمد على التدريب واستعداد الوزارات والقوات المسلحة في المملكة. من خلال الاستثمار في التدريب القانوني وبناء القدرات، يمكن للمملكة العربية السعودية أن تضمن أنها ليست فحسب مستعدة للدفاع باستخدام القانون كسلاح، بل بشكل استباقي في السعي لتحقيق أهدافها الوطنية.
وفي الختام، يطيب لنا أن نذكر أنه تحت القيادة الحكيمة لصاحب السمو الملكي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، تمتلك المملكة العربية السعودية القدرة على وضع معيار جديد في الحرب القانونية، باستخدام الأدوات القانونية لتعزيز أهدافها الوطنية وتأمين مكانتها كرائدة في القرن الواحد والعشرين. لقد حان الوقت للشروع في هذه الرحلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال