الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن الإشكالية الأساسية التي كانت تواجه القطاعات الحكومية هي بالأساس ليست في كيفية التخطيط وإدارة الجهات، بل في ثقافة العمل الإداري بمفهومها الواسع والمرن. فإذا، الحوكمة مطلوبة كثقافة إدارية حتى تصل بالعمل الإدارة إلى أرقى مستويات الجودة ومعايير النزاهة، وهي مطلوبة بالدرجة الأولى في فضاء القطاع العام؛ لأن هذا الفضاء يعمل على تشغيل المال العام، ويسود على كامل الفعاليات التشغيلية بالدولة من قطاع عام وخاص.
لم تكن الإدارة المنضبطة غائبة عن المملكة، فهي تسير بانضباط ورقابة وصرامة بالتعامل مع أي انتهاك للمال العام، لكن التطور من سنن الحياة. الواقع أن الفساد اليوم بات يحمل أساليبا أكثر مرونة وحداثة للإضرار بالمال العام، فالفساد لم يعد كالسابق على شكل شخص يختلس بشكل مباشر من خزينة المال العام، أو يتلاعب بأسعار المناقصات والمشتريات العامة، أو يتواطأ مع التجار الموردين للدولة. هذا التطور العالمي الخطير في ممارسات الفساد واستغلال السلطة في الجهات العامة كان يستوجب مواجهته بأسلوب ومنهج إبداعي غير تقليدي.فالممارسات الحديثة للفساد اكتسبت مناعة ضد الرقابة التقليدية والمحاسبة التأديبية القديمة؛ الأمر الذي أوجب مواجهتها عبر التغيير الفكري بعيد النظر لإدارات الجهات العامة، وليس عبر الصرامة البحتة التي قد أصبحت مشلولة.
من هذا المنطلق، فقد أصدرت المملكة مؤخراً الدليل الاسترشادي لحكومة الجهات العامة، ومن المسمى تتضح لنا الرؤية الإدارية الجديدة. فالمنهج الاسترشادي لا يأتي بسبب عدم القدرة على فرض القواعد بقوة القانون، لكن الحوكمة بأرقى معاييرها تحتاج في البداية إلى بناء الثقافة من جذورها؛ وهو ما يتطلب تقييما لوضع الجهات العامة، وتحديد ما تحتاجه من تغيير، ثم زرع لثقافة الشفافية والالتزام، والرقابة، والمحاسبة بشكل تدريجي حتى تصل الجهات العامة إلى الدرجة المطلوبة من التناغم والمحاسبة.
البناء الإداري الذي يحتاج إلى إعادة نظر: الهيكل التنظيمي للحوكمة
بالنسبة للهيكل التنظيمي في أية جهة عامة، فهو ذلك المخطط الذي يوضح شكل الجهة من حيث إداراتها وأقسامها الداخلية، وارتباطاتها، ومهامها ومسؤولياتها. يعتبر الهيكل التنظيمي للحوكمة في الجهات العامة من الركائز الأساسية التي تضمن تحقيق الأداء الفعّال والشفافية في إدارة الموارد العامة. يتضمن هذا الهيكل مجموعة من المكونات المهمة التي تعمل معاً لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسات الحكومية وضمان الامتثال للأنظمة واللوائح. ولتعزيز دور الهيكل التنظيمي في تطبيق مبادئ الحوكمة داخل الجهات العامة، يجب على هذه الجهات إعادة النظر في عدة جوانب رئيسية لضمان الكفاءة والشفافية والمساءلة. فيما يلي مجموعة من الإجراءات المهمة التي ينبغي مراجعتها وتطويرها:
مبادئ الحوكمة من التنظير إلى التطبيق
وضع الدليل الارشادي لحوكمة الجهات العامة مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل دستور الحكومة، وهي المبادئ الكفيلة بتحقيق أهداف الحوكمة في تحسين أداء الجهات العامة ورفع مستوى ثقة الناس بها وتعزيز كفاءتها واستدامتها.
يمكن تحليل أهم مبادئ حوكمة الجهات العامة كما يلي:
المسؤولية عن تطبيق الحوكمة: لحظة الحقيقة
إذا كان وضع مبادئ للحوكمة ومعايير للتقييم والتطبيق هي من الأمور النظرية، فإن لحظة تكليف جهة محددة لتطبيقها مع منحها الصلاحيات اللازمة وتحميلها المسؤوليات الضرورية، فهي لحظة الحقيقة لأنها اللحظة التي ستتحول فيها الحوكمة إلى واقع معاش.
مبدئياً فقد أوكل الدليل الاسترشادي تطبيق الحوكمة للإدارة الإشرافية صاحبة السلطة والصلاحيات لتسيير الجهة العامة، وذلك عبر تكليف المسؤول التنفيذي بالجهة والإدارة التنفيذية كلها، ثم تكليف جميع منسوبي الجهة العامة بحسب مسؤولياتهم الوظيفية.
لكن الدليل كان عالما بأن الإدارة الإشرافية لا يمكنها وفق روتين عملها المتراكم أن تقوم بمهام الحوكمة المتخصصة بتفرغ. لذا فقد ألزم الدليل الجهات العامة بتعيين لجنة أو وحدة أو إدارة تنظيمية متخصصة بتطبيق الحوكمة، بحيث يكون عملها تقييم الجهة العامة وتحديد خطط العمل المطلوبة ومؤشرات للأداء، ثم على لجنة الحوكمة هذه أن ترفع تقاريرها للإدارة الإشرافية. وفي الواقع، يبدو أن تطبيق الحوكمة يتطلب تفاعلا أكبر من مجرد الرقابة وتقييم الأداء من لجنة الحوكمة، فمن واجب هذه اللجنة أن تتفاعل مع منسوبي الجهة بأسلوب التدريب والتوعية، على أن يتم تقييم الممارسات ومكافأة المتميزين، ثم يمكن أن تنعكس هذه التجربة التفاعلية بشكل إيجابي على التطبيق الفعلي للحوكمة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال