الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد
خلال بحثي وقراءتي في الحوكمة وفروعها تنقدح في ذهني تقاطعات بين مفاهيم الحوكمة وبين الأحكام المستمدة من القواعد الفقهية، فجاء السؤال عن طبيعة العلاقة بين هذين العلمين.
وفي هذا المقال بإيجاز سنتعرف على هذين العلمين، و سأورد ثلاث قواعد فقهية وأربطها بما يشابهها من قواعد الحوكمة في نظام الشركات، ثم أبين وجهة نظري في طبيعة هذه العلاقة ووجه الاستفادة منها.
فحوكمة الشركات من حيث هي: قواعد ضبط سلوك وقرارات الشركة للوصول إلى غايتها – الاستدامة – عن طريق ركائز، هي: المساءلة والمسؤولية والشفافية والعدالة.
والقاعدة الفقهية هي: (حكم فقهي كلي ).
فالقاعدة حكم، أو قضية، وهي مختصة بالفقه دون سائر العلوم، وهذا الحكم الفقهي كلي، أي أنه ينطبق على جميع أفراده الداخلة تحته.
ثمرات وفوائد القواعد الفقهية:
1- تيسير الفقه، حيث تعين على ضبط كثير من المسائل المتشابهة، واستخراج الأحكام منها.
2- تكون الملكة الفقهية لاستنباط النوازل المتجددة.
3- فهم مقاصد الشريعة والاطّلاع على حِكمها وأسرارها.
4- تساعد على الانضباط وتجنب التناقض والشذوذ.
ولأهمية القواعد الفقهية في لمّ المتفرق، وجمع المتشابه، ومعرفة حكم غير المنصوص، فإن السلطة التنظيمية في عدد من الدول عند إصدارها لأنظمة المعاملات المدنية، تجعل في أولها أو آخرها قواعد فقهية، وهذا ما سلكه المنظم السعودي في نظام المعاملات المدنية لعام ١٤٤٤هـ حيث نص على ذلك في مادته الأولى، وفي الأحكام الختامية في المادة العشرون بعد السبعمائة – قبل الأخيرة -، فذكر إحدى وأربعين قاعدة فقهية.
ولنذكر ثلاث قواعد ونربط بينها وبين حوكمة الشركات:
القاعدة الأولى: العادة محكمة.
معناها: أن ما اشتهر بين الناس وتكرر وتعارفوا عليه من قول أو فعل أو ترك، ولم يخالف شرعاً ولا شرطاً، فهو معتبر ويرجع إليه في بناء الأحكام، فيعتمد عليه في إيضاح المراد باللفظ أو تخصيصه أو الزيادة عليه.
مثال لعلاقتها بحوكمة الشركات: أن من قواعد الحوكمة أن مسؤولية مجلس الإدارة والمدير القيام بواجبات العناية والولاء فيجب عليهم القيام بها وفق المهارة المعتادة للشخص الحريص، كما نصت عليه المادة السادسة عشر من لائحة نظام الشركات، فالمرجع في تحديد عناية الرجل الحريص هو العادة.
القاعدة الثانية: لا ينسب إلى ساكتٍ قول، ولكن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بياناً.
معناها: أن من كان قادراً على الكلام والنطق في حكم شرعي أو في إثبات حق أو نفيه ولا يمنعه من ذلك مانع، ثم سكت ولم يتكلم فإنه لا ينسب إليه قول في هذا الأمر، ولا يجوز أن يُقوّل شيئاً فيه.
أما إن كان ثم حاجة تستدعي الكلام، وسكت الشخص من غير عذر، فإنه ينسب له قول ويقيّد بسكوته، فلا يعطى السكوت حكم الكلام إلا عند الحاجة لاعتباره.
والمراد بمعرض الحاجة هو كل موطن يلزم فيه التكلم لدفع ضرر أو غرر، أو يكون السكوت فيه طريقة عرفية للتعبير.
مثال لعلاقتها بحوكمة الشركات: أن مسؤولية أعضاء مجلس الإدارة أو المدراء بسبب ما يصدر منهم من أخطاء أو إهمال أو تقصير، تكون على جميعهم إذا كان القرار صادرًا بإجماعهم، وإذا صدر القرار بأغلبية الآراء فلا يسأل المديرون أو الأعضاء المعارضون متى أثبتوا اعتراضهم صراحة في محضر الاجتماع، ولا يعد الغياب عن حضور الاجتماع الذي يصدر فيه القرار سببًا للإعفاء من المسؤولية إلا إذا ثبت عدم علم المدير أو العضو الغائب بالقرار أو عدم تمكنه من الاعتراض عليه بعد علمه به. كما نصت عليه المادة الثامنة والعشرين من نظام الشركات، فجُعل البيان الكتابي شرطاً للإعفاء من المسؤولية، وأن تركه في معرض الحاجة لا يعفي منها، وحكم العضو كحكم من وافق على القرار.
القاعدة الثالثة: التخيير لحق النفس تشهٍّ، ولغيره مصلحة.
معناها: أن الإنسان إذا خير بين شيئين فأكثر، فإن كان التخيير لمصلحته الشخصية فله حق التشهي والاختيار وإن كان ما اختاره أقل مصلحة من غيره – مالم يرتب ضرراً -، وأما إن كان الاختيار لحق غيره فيجب عليه اختيار أكثرهما مصلحة ونفع.
مثال لعلاقتها بحوكمة الشركات: أن مدير الشركة وأعضاء مجلس إدارتها يجب أن تكون قرارتهم قائمة على منفعة الشركة وتحقيق غايتها، وأن مصلحتها هي المقدمة، وأنه يجب عليهم تجنب حالات تعارض المصالح، ويجب عليهم كذلك أن يفصحوا عن أي مصلحة لهم سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة في العقود والأعمال التي تتم لحساب الشركة. كما نصت عليه المادة السادسة والعشرين من نظام الشركات.
مما سبق يظهر لنا أن علم القواعد الفقهية بمعناه العام الذي يشمل القواعد والضوابط، أحد العلوم التي تُستمد منها مبادئ الحوكمة، وكما يتفق عليه غالب من كتب في الحوكمة أنها من حيث هي ممارسات قديمة، ولكن إفرادها بهذه الاسم وهذا الترتيب هو الحديث نسبياً، فمعاني الحوكمة ومبادئها موجودة سابقاً ضمن أحكام وفروع القواعد الفقهية.
لاسيما وأن من أكبر النظريات المؤسسة للحوكمة ( نظرية الوكالة )، والوكالة هي أحد مواضيع فقه المعاملات وتتضمن قواعد وضوابط يمكن الاستفادة منها في الحوكمة.
ودلالة القواعد الفقهية على الحوكمة تكون أحياناً دلالة مباشرة كما في القواعد السابقة، وأحيان تكون من طرف خفي تحتاج لدقة فهم واجتهاد.
لذا فإنه يحسن إفراد هذا الموضوع ببحث خاص موسع، يبين نوع العلاقة وأوجه الاستفادة والأحكام المستمدة.
والله أعلم
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال