الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
للحرف والصناعات اليدوية دورًا حيويًا في تاريخ المملكة العربية السعودية، خاصة بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري. هذه الصناعات ليست فقط تعبيرًا عن الإبداع والمهارات المتوارثة عبر الأجيال، بل شكّلت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات المحلية. ففي ظل غياب الصناعة الحديثة والتقنيات المتطورة في تلك الحقبة، اعتمدت المجتمعات على هذه الصناعات لتلبية احتياجاتها المعيشية، وتعزيز اقتصادها المحلي.
التطور التاريخي للحرف اليدوية
لم تكن الحرف والصناعات اليدوية التقليدية في المملكة العربية وليدة القرن الماضي، بل هي تراث حضاري تناقلته الأجيال من الحضارات القديمة التي كانت موجودة في جزيرة العرب، كحضارة سبأ والكنعانيين والأنباط وكِندة؛ حيث توارثت الأجيال الحرف والصناعات اليدوية التقليدية وطوروها مروراً بالعصور الإسلامية إلى أن وصلت لأهالي جزيرة العرب السعوديين في بدايات القرن الرابع عشر الهجري. عليه، بدأت الصناعات التقليدية والحرف اليدوية تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد السعودي منذ توحيد المملكة العربية السعودية وانتشار الأمن والاستقرار عام 1351هـ، وقد شهدت هذه الحرف تطورًا ملحوظًا مع اكتشاف النفط والمعادن الأساسية في الدولة السعودية الحديثة عام 1358هـ. ومن أهم الحرف التي تناقلتها الأجيال منذ قديم العصور: حرفة صناعة الفخار، وحرفة البناء، وحرفة النسيج، وحرفة سف الخوص، وحرفة الصياغة، وحرفة الحدادة، وحرفة النحاسيات، وحرفة الدباغة، وحرفة الخرازة، وحرفة النجارة. وتعتبر هذه هي الحرف اليدوية الأساسية؛ ومنها انبثق عدد من الحرف الفرعية التي مارستها المجتمعات المحلية في مختلف مناطق المملكة. وكان لهذه الحرف دور مهم في تعزيز التبادل التجاري بين المدن والقرى المختلفة، كما أسهمت في خلق فرص عمل وتحسين مستويات الدخل بين المواطنين من رجال ونساء.
الدور الاقتصادي للحرف اليدوية
إن الحرف اليدوية كانت تمثل أهم ركائز الاقتصاد المحلي في السعودية قبيل منتصف القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث كانت هذه الصناعات تزود الأسواق المحلية بالمنتجات التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية، من أدوات الزراعة إلى الأواني المنزلية والملابس والفرش والأسلحة. وبالإضافة إلى تلبية احتياجات السوق المحلي، كان للعديد من هذه الصناعات القدرة على تصدير منتجاتها إلى الدول المجاورة، مما أسهم في زيادة الدخل على مستوى الأفراد والقرى والمدن والمناطق في بدايات الدولة السعودية. ومن أهم الأسواق التقليدية في المملكة العربية السعودية التي كانت تُمارَس فيها الحرف اليدوية: سوق الثميري وسوق الزل في الرياض، وشارع الصناعة والجردة والمجلس وقبة رشيد في بريدة، وسوق المسكوف في عنيزة، وسوق دومة الجندل الشعبي في الجوف، وسوق برزان الشعبي في حائل، وسوق البلدة القديمة في تبوك، وسوق الخميس في القطيف، وسوق القيصرية في الأحساء، وسوق الخوبة الشعبي في جيزان، وسوق الجنابي والسيوف في نجران، وسوق الثلاثاء الشعبي في أبها، وسوق الحجاز والليل في مكة المكرمة، وسوق قرية المفتاحة في عسير، وشارع العيينة وسوق القفاصة في المدينة المنورة، وسوق الندى في جدة، وسوق البلد في الطائف. إن انتشار هذه الأسواق والشوارع التقليدية في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، والمُكرّسة لصناعة المنتجات اليدوية، ليست مجرد مراكز صناعية تسعى إلى الإنتاج فحسب؛ بل تعكس في جوهرها عمق وحجم التبادل التجاري والأنشطة الاقتصادية والصناعية التي شهدتها المملكة على مر العصور وما زالت تشهدها. هذه المواقع التاريخية تمثل جسراً اقتصادياً يربط بين المدن والقرى، حيث لم تكن الأسواق فضاءات لتداول السلع التقليدية وحسب، بل أيضاً ميادين للتبادل الثقافي والاجتماعي بين الحرفيين والمتسوقين المحليين والزائرين، مما ساهم بشكل كبير في الحفاظ على التراث المحلي. بالإضافة إلى ذلك، كانت الأسواق تعبيراً حياً عن الإبداع والفن والمهارة التي تتسم بها كل منطقة من مناطق المملكة. عبر العقود، ساعدت هذه الأسواق في الحفاظ على الصناعات والحرف اليدوية التي تميز كل منطقة، وكان لها دور اجتماعي بارز، حيث وفرت ورش العمل والمعامل الصغيرة فرصاً للعمل والتواصل الاجتماعي في المزارع والأحياء والقرى، فكانت ملتقى للأهالي لتبادل الخبرات والأفكار. وقد أسهمت هذه الصناعات في خلق فرص عمل للرجال والنساء، مما ساعد في الحد من البطالة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
التحديات التي واجهتها الحرف اليدوية
على الرغم من الدور الهام الذي لعبته الحرف اليدوية في دعم الاقتصاد والتبادل التجاري المحلي والدولي في جزيرة العرب منذ عصور الحضارات القديمة، ومرورًا بالعصور الإسلامية وصولاً إلى بداية تأسيس المملكة العربية السعودية، إلا أن هذه الصناعات واجهت تحديات كبيرة في أواخر القرن الرابع عشر الهجري. ففي عام 1390هـ، ظهرت طفرة اقتصادية كبيرة في المملكة العربية السعودية، تزامنت مع زيادة الوظائف الحكومية الإدارية، ما دفع الكثير من الناس إلى التخلي عن العمل في الحرف والصناعات اليدوية التقليدية. من بين أبرز التحديات التي أسهمت في تراجع هذه الحرف رحيل عدد كبير من الأجداد المهرة في تلك المجالات، وظهور التكنولوجيا الحديثة التي أدت إلى التوسع في الصناعات الكبرى. إلى جانب ذلك، واجه الحرفيون نقصًا في التمويل وصعوبة في تسويق منتجاتهم التقليدية، مما أدى إلى انخفاض الطلب على المنتجات اليدوية.
دور الدولة في دعم الحرف اليدوية
في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، أدركت الدولة السعودية ضرورة الحفاظ على التراث الثقافي والاقتصادي المرتبط بالحرف والصناعات اليدوية، مما دفعها إلى إطلاق عدة مبادرات تهدف إلى دعم هذا التراث اللامادي وتعزيز دوره في الاقتصاد المحلي. من أبرز هذه المبادرات كان تأسيس “المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني”، التي أُنشئت بناءً على قرار مجلس الوزراء رقم م/30 في 10 شعبان 1400هـ، لتصبح الجهة الرسمية المسؤولة عن التدريب التقني والمهني في المملكة. كذلك، أُسست “هيئة التراث” في فبراير 2020م بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 414، بهدف حماية التراث الحرفي وتعزيزه من خلال إقامة المعارض والمهرجانات، إضافة إلى تقديم الدعم المالي للحرفيين. وقد جاء قرار ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- في مجلس الوزراء رقم 236 والمنعقد في 14ربيع الأول 1446هـ بتسمية عام 2025 “عام الحرف اليدوية”، ليؤكد التزام القيادة السعودية بتعزيز هذا التراث الوطني ودعمه ونشره محلياً ودولياً محققاً رؤية عام 2030 الطموحة.
مستقبل الصناعات اليدوية
يشهد العالم اليوم اهتمامًا متزايدًا بالمنتجات اليدوية والتراثية، حيث يعتبرها البعض رمزًا للهوية والثقافة ووسيلة جذب سياحي، وبالتالي مصدرًا من مصادر الدخل الاقتصادي الذي لا يرتكز على النفط. حيث تقدر قيمة السوق السنوي للحرف اليدوية والصناعات التقليدية في المملكة العربية السعودية بـ 1.5 مليار ريال، منها 20% فقط من المنتجات المحلية، والباقي 80% تستورد من الخارج، الأمر الذي حفز التوجهات الحكومية الرسمية لكي تتخذ خطوات جادة وسريعة من أجل الاهتمام بهذا القطاع. وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها الحرف اليدوية في السعودية، إلا أن هناك جهودًا متزايدة لإعادة إحياء هذه الحرف اليدوية والصناعات التقليدية وتعزز من دورها في الاقتصاد المحلي. ففي ضل الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة والمبادرات الخاصة، من المتوقع أن تلعب الحرف والصناعات اليدوية دوراً متزايد الأهمية في تعزيز الاقتصاد السعودي في المستقبل القريب. وذلك من خلال تشجيع الحرفيين على ممارسة مهاراتهم اليدوية وإنتاج قطع فنية إبداعية وفريدة من نوعها، مما سيزيد من جاذبيتها سواء لدى المواطنين المحليين أو السياح الدوليين الذين يزورون المملكة. هذا الاهتمام سيسهم في رفع مستوى الطلب على هذه المنتجات ويعزز من مكانة الحرف اليدوية كجزء من الهوية الثقافية والاقتصادية للمملكة.
ختاماً، إن الحرف والصناعات اليدوية تمثل جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي والاقتصادي للمملكة العربية السعودية. رغم التحديات التي واجهتها في نهايات القرن الرابع عشر، إلا أن حكومتنا الرشيدة أطلقت عدة مبادرات مدروسة لتعزز قطاع الحرف والصناعات اليدوية التي لا تزال تشكل ركنًا مهمًا في الاقتصاد المحلي. ومن خلال الدمج بين دعم الدولة واهتمام أفراد المجتمع، يمكن لهذه الحرف اليدوية والصناعات التقليدية أن تستعيد مكانتها وتسهم في تعزيز الاقتصاد السعودي بطرق مبتكرة ومستدامة.
المصادر والمراجع:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال