دولة الرفاه .. والتغييرات الديموغرافية

يقول هيمان مينسكي – 1986م – ” النظام الرأسمالي المعقد ماليـــًا ينطوي في داخله على خلل!، كان الاقتصاد القديم من قبل لا يعرف الأزمات المالية والكساد وحالات الإفلاس خلال عقود طويلة، لكن بعد النظام الحديث أصبح تحدث هذه الأمور كل بضعة أعوام “، مينسكي مضى على خطى كينز وشيلــر ومايكل لويس والعديد من بعدهم، الجميع يؤمن بأن خلل ما في هذا النظام الجديد! كانت الرأسمالية في مولدها تسعى بأن تكون سيدة استقرار النظم الاقتصادية والمعزز الكبير لكفاءتهم، لكن في كل عقد جديد من الزمن يظهر ما يثبت عكس ذلك تمامًــــــا! لكن مع هذا لا زال النظام غير المركزي للاقتصاد هو النظام الأفضل للاستقرار والنمو، والنظم المركزية خارج السياق تمامًـــا، وذلك بعد تجارب الاشتراكية الطويلة غير الموفقــة على الإطلاق.

ظهر كينز كنجم لا يمكن تجاهله في العقد الثالث من القرن العشرين، حيث قال بأن هناك أمران سوف يعملان على تحقيق الاستقرار والنمو الطويل وعلاج لعلة الخلل، دولة الرفـــــاه (الحكومة الرفيقـــة كما يُطِلق عليها مينسكي)، وبنك مركزي يكون هو المقرض والملاذ الأخيـــر. كانت دولة الرفاه المصطلح اللامع وسالب الألباب خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانيــة، كان الحلم والمثال الأسمى لمدينة أفلاطون الفاضـــلة، لكن كيف هو حالها الآن بعد كل سنوات الفخر والحب تلك! تُشيــر دولة الرفاه الى أن الدولة تعمل على توفيــــر جميع الحقوق الاجتماعية لمواطنيها بالإضافة الى أنها تعمل على تقليل التفاوت بينهم من خلال توفير ودعم تقديم خدمات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وتعمل على تحقيق حد أدنى لدخل الأفراد والأسر دون النظر الى مستوياتهم التعليمية والعمرية وحتى القيمة السوقية، فالأسرة الفقيرة والتي ليس لها أصول ذات قيمة سوقية مرتفعة لها جميع الحقوق والدعم المالي والاقتصادي والاجتماعي كما هو الحال مع الأسرة التي لها أصول مرتفعة.

تعتمد الحُلم دولة الرفاه على ثلاثة ركائز، وكلها تقوم به الدولة: الإعانات النقدية للأسر (على سبيل المثال الضمان الاجتماعي)، تقديم الخدمات الإنسانية (التعليم ورعاية المسنين)، والركيزة الأخيرة وهي تنظيم الأسعار والأنظمة والتشريع (مراقبــــة الإيجارات، سياسة الإسكان). تبنت العديد من الدول بعض ركائز دولة الرفاه وخصوصًـــــا في شمال أوربا – النرويج المثال الأبرز – ولكن لم تتبنى الولايات المتحدة الاقتصاد العظيم دولة الرفاه كتوجه اقتصادي لها على الرغم من انها تعمل على تنفيذ القليل من نظرياتها. دولة الرفاه لم تستمر حلم طال انتظار تحقيقه حتى جاء نقد الاقتصاد اللاذع لها بشكل قاسي، وظهر بها العديد من الفجوات عبر الزمن، ليعود العالم من جديد ليس فقط بلا حلم، ولكن باكتشاف خلل نظام اقتصادي جديد لم تنعم أظافر يديه بعد، حيث كان الأمـــــل بأن يتسيد الاستقرار واليقين ومعدلات النمو المشهد بسببه!

تم تقسيم المشاكل الرئيسية لدولة الرفاه إلى قسمان: عوامل خارجية وعوامل داخلية في النظام الاقتصادي ذاته. العوامل الخارجية التي بدأت تنهش الحلم هي التغييرات الديموغرافية الهائلة في العالم، فمعدلات الشيخوخة في أوروبا – على سبيل المثال – مرتفع بشكل هائل لا يمكن التحكم به على المدى المتوسط والقصير، الا من خلال الهجرة، المعدلات العمرية المرتفعة يرتبط معها أنفاق حكومي هائل من تأمين صحي ورعاية ومراقبة، وهذا جميعه بالتزامن مع انخفاض تحصيل الضرائب ومعدل الإنتاجية لهذه الفئة التي ظهرت كمعضلة لدولة الرفاه لم تكن متوقعة. أيضًا ارتفاع معدلات العمالة القادمة من البلدان الأخرى – الصين والهند وأخرى – الى البلدان المتقدمة التي تطبق نظام الرفاه يؤثر عليها بشكل سلبي على توزيع الدخل في الدولة – لماذا تدفع الدولة لمواطن ذو كفاءة قليلة يعمل في مجال ما وبالإمكان استبداله بموظف بديل من الدول الأخرى!

ارتفاع التكاليف النسبية للرعاية الصحية والإنسانية مع مرور الوقت يرهق كاهل دولة الرفاه المنشودة مما تضطر الى زيادة الضرائب المفروضة على المواطنين بالرغم من أن هذه الخدمات لها معدل إنتاجية قليل – ارتفاع في تكاليف يواجه معدل إنتاج منخفض لهذه التكاليف، أيضًــا تعتبر هذه كمعضلة حديثة تواجه دولة الرفاه. العوامل الداخلية هي تكون على شكل تشوهات أخلاقية وضريبية، التأمين على الدخل – يعتبر تشوه أخلاقي – يرافقه اختيار الفرد وقت فراغ أطول لأن سيكون هناك تأمين يغطي هذه الأوقات المهدرة، التأمين على الرعاية الصحية – على سبيل المثال – يطلب بعض المرضى لطلب اختبارات طبية ذات تكاليف مرتفعة وأدوية باهظة الثمن، العديد من الأمثلة لها نفس المحتوى والآلية وجميعها لا يرافقها إنتاجية مرتفعة!
الآن وبعد أيام مارينارد كينـــــز وحلم دولة الرفاه الطويل، لم يتبق سوى قليل منها ومتوقع في كل مرة أن يُكتشف فيها ما يُعيبها حتى يفنى هذا القديم بسبب عدم منطقية الطرح له والمبني على الكثير من الوهم والتوحد، لتكون بذلك أماني تائهة للاستقرار والنمو والعالم.

اقتباس اقتصادي: ” إن دولة الرفاهية لا تهدف في واقع الأمر إلى رفاهية الجماهير، بل إنها تهدف إلى إرضاء غرور النخبة. ” – توماس سويل