الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أحدثت جائحة كوفيد-19 تغيرات جذرية في نمط الحياة والعمل حول العالم. وبينما شهدت العديد من القطاعات الاقتصادية تعثراً كبيراً، برز العمل عن بعد كحل سريع وفعال لضمان استمرارية الأعمال والوظائف في ظل الإغلاق والقيود الصحية. اليوم؛ وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على بداية الجائحة، أصبح التساؤل المطروح: هل سيبقى العمل عن بعد كنموذج دائم في سوق العمل العالمي أم أن العودة إلى المكاتب هي الحتمية المقبلة؟
أولاً؛ لا بد من الإشارة إلى أن العمل عن بعد لم يكن مفهوماً جديداً كلياً قبل جائحة كوفيد-19، لكنه كان محصوراً في بعض القطاعات المتقدمة مثل التكنولوجيا والإعلام. ومع تفشي الجائحة، اضطرت شركات من مختلف القطاعات إلى اعتماد هذا النموذج بسرعة قياسية. وبحسب تقرير صادر عن مؤسسة McKinsey فإن ما يصل إلى 62% من الموظفين في الاقتصادات المتقدمة عملوا عن بعد لفترات متفاوتة خلال الجائحة، وهو ارتفاع كبير مقارنة بما كان عليه الوضع في السابق.
هذه القفزة السريعة نحو العمل عن بعد أثارت تساؤلات حول فعاليته على المدى الطويل. في هذا السياق أظهرت العديد من الدراسات أن الموظفين أصبحوا أكثر إنتاجية عند العمل عن بعد، حيث أشار تقرير صادر عن Stanford University إلى أن الإنتاجية زادت بنسبة تصل إلى 13% لدى الموظفين الذين عملوا عن بعد مقارنة بزملائهم في المكاتب التقليدية، كما أن الشركات وفرت تكاليف تشغيلية كبيرة، بما في ذلك تكاليف الإيجار والطاقة.
ومع ذلك؛ لا يخلو العمل عن بعد من التحديات. أشار تقرير Harvard Business Review إلى أن 37% من الموظفين الذين يعملون عن بعد شعروا بالعزلة وفقدان التواصل الاجتماعي المهني، مما أثر على حالتهم النفسية وأدى في بعض الحالات إلى تراجع الأداء الوظيفي. كما تواجه الشركات تحديات في إدارة الفرق عن بُعد، حيث تبرز الحاجة إلى استراتيجيات جديدة لضمان تماسك الفريق ومتابعة الأداء.
على الصعيد العالمي، تختلف التوجهات تجاه استمرارية العمل عن بعد بين الدول؛ في الولايات المتحدة، أظهر استطلاع أجراه Pew Research Center في عام 2023 أن 61% من الموظفين الذين عملوا عن بعد خلال الجائحة يفضلون الاستمرار في هذا النمط إما بشكل كامل أو جزئي. على الجانب الآخر تسعى بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا إلى إعادة الموظفين تدريجياً إلى المكاتب، حيث ترى أن العمل في المكتب يعزز الابتكار والتعاون.
ومن الناحية الاقتصادية قد يكون للعمل عن بعد آثار بعيدة المدى على أسواق العقارات التجارية والطلب على المكاتب. فقد أشارت دراسة CBRE Group إلى أن الطلب على المساحات المكتبية انخفض بنسبة 30% في عام 2022، ومن المتوقع أن يستمر الانخفاض في السنوات المقبلة، حيث تبحث الشركات عن مرونة أكبر في استخدام المساحات المادية. وبالمقابل، قد يشهد قطاع التكنولوجيا والبنية التحتية الرقمية ازدهاراً متواصلاً لدعم متطلبات العمل عن بعد.
وعند النظر إلى المستقبل؛ يبدو أن ما يسمى بنموذج “العمل الهجين” سيصبح هو الخيار المفضل لدى العديد من الشركات. يشير هذا النموذج إلى مزيج من العمل عن بعد والحضور الجزئي في المكاتب، حيث يمنح الموظفين المرونة التي يحتاجونها بينما تضمن الشركات الحفاظ على بعض التفاعل الاجتماعي المهني. تقرير شركة Gartner الصادر في عام 2023 أظهر أن 82% من المدراء التنفيذيين في الشركات الكبرى حول العالم يخططون لاعتماد نموذج العمل الهجين في السنوات القادمة.
وفي حين أن بعض الشركات الكبرى مثل Twitter وMeta (فيسبوك سابقاً) قد أعلنت نيتها الاستمرار في العمل عن بعد بشكل دائم، إلا أن شركات أخرى مثل Google وApple بدأت تدريجياً في استدعاء موظفيها إلى المكاتب مع الحفاظ على بعض المرونة. هذا التوجه يعكس التباين الكبير في السياسات المؤسسية التي لا تزال في طور التجربة والتكيف مع الظروف المتغيرة.
ويبدو أن العمل عن بعد، الذي كان في يوم من الأيام مجرد خيار، قد تحول إلى ركيزة أساسية في هيكلية سوق العمل الحديث. ومع استمرار التطورات التكنولوجية وظهور احتياجات جديدة لدى القوى العاملة، من المرجح أن يستمر هذا النموذج، وإن كان بشكل مختلط مع الأنماط التقليدية. الجائحة قد تكون قد فرضت هذا التحول، ولكن مستقبل العمل عن بعد أصبح اليوم خياراً استراتيجياً للعديد من الشركات العالمية الباحثة عن المرونة والإنتاجية المستدامة.
وفي ضوء رؤية المملكة العربية السعودية 2030، يتماشى التحول نحو العمل عن بعد مع الأهداف الطموحة التي تسعى الرؤية إلى تحقيقها، خاصة فيما يتعلق بتطوير الاقتصاد الرقمي وزيادة كفاءة القوى العاملة. تهدف الرؤية إلى تعزيز الابتكار، وتحقيق التحول الرقمي في مختلف القطاعات، وتقليل الاعتماد على النفط من خلال تنويع الاقتصاد. العمل عن بعد يعتبر أداة فعالة لتحقيق هذه الأهداف، حيث يدعم بيئة العمل المرنة التي تساهم في زيادة الإنتاجية وجذب المواهب المحلية والدولية.
الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن المملكة تخطو خطوات كبيرة نحو الاقتصاد الرقمي. فقد أظهرت تقارير الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) أن معدل تبني التكنولوجيا الرقمية ارتفع بنسبة 85% في القطاعين الحكومي والخاص خلال عام 2022. علاوة على ذلك، تسعى المملكة إلى رفع نسبة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 19% بحلول عام 2030، وهي خطوة ستعزز من فرص تبني نماذج عمل مرنة مثل العمل عن بعد.
كما أن المبادرات الحكومية مثل برنامج “التحول الوطني” تدعم هذا التحول من خلال تمكين البنية التحتية الرقمية، حيث تسعى المملكة إلى أن تكون في طليعة الدول من حيث الكفاءة الرقمية، فوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات أعلنت في 2023 عن وصول نسبة تغطية شبكة الإنترنت عالية السرعة إلى 99% من المناطق المأهولة بالسكان، مما يمكّن الشركات من تبني نموذج العمل عن بعد بسهولة.
إلى جانب ذلك تتجه المملكة لتوفير بيئة عمل حديثة ومتطورة تلائم احتياجات القوى العاملة الشابة التي تشكل نسبة كبيرة من السكان. وفقاً لتقرير الهيئة العامة للإحصاء يمثل الشباب السعودي دون سن الـ35 نحو 70% من إجمالي السكان، وهو ما يدفع إلى تطوير حلول عمل مرنة، مثل العمل عن بعد، لتعزيز فرصهم في سوق العمل العالمي.
وفي الختام؛ يعكس العمل عن بعد رؤية المملكة 2030 في تعزيز اقتصاد حديث ومرن يعتمد على الابتكار الرقمي، ويقدم حلولاً فعالة لتحقيق التنمية المستدامة وتحفيز النمو الاقتصادي، وهو ما يضع المملكة في موقع ريادي ضمن الاقتصادات العالمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال