الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كلّ يومِ يبحثُ المستثمرون عن دروب غير تقليدية تتجاوزُ أسواق الأسهم والعقارات ابتغاء تحقيق عوائد ماليّة هَائِلة؛ ومن هنا سطعَ نجمُ تمويل الطرف الثالث (TPF) في كَبِدِ سماءِ الأدوات الاستثمارية التي تجمعُ بين القانونِ والمال، حيث بمقتضاه يتمكَّن المستثمرون من المساهمةِ في تمويلِ الدعاوى التحكيمية ذات الفرص الواعدة.
من أجل ذلك، فتمويلُ الطرفِ الثالث- وكما عرَّفته لجنة الأمم المتحدة للقانون التِجاري الدولي UNCITRAL- هو: اتفاقُ من جانبِ كيان ما -المُموِّل- ليس طرفًا في المنازعة، على أنْ يوفرَ الأموال أو غيرها من أشكال الدعم المادي إلى طرفٍ مُتنازع -المدعي غالبًا- مقابل أتعاب تتوقفُ على حصيلةِ نتائج المنازعة.
يبيّن ممَّا تقدمَ أنَّ المموِّلَ لا يُعدُّ طرفًا في المنازعةِ، إنَّما هو يدعمُ أحد طرفيها ماليًا -كليًا أو جزئيًا- على أَمل الحكم لصالح الطرف الذي يدعمه؛ ومن ثَمَّ يتقاضى المبلغ أو النسبة المُتفق عليها في اتّفاقيَّةِ التمويل (تتراوح عادةً من 15% وحتى 50% من التعويض الممنوح). إذًا، فهدفُ المُموِّلِ يتمثلُ قطعًا وحصرًا في تحقيق الربح، وهذا الربح هو ربحٌ موقوفُ على تحققِ نتيجة إيجابية؛ ألا وهي كسب الطرف المموَّل للمنازعة.
وعلى هذا، فإنَّ خسارةَ الطرف المُموَّل لدعواه لا تكونُ مَدْعاةً لتضامن المموِّل معه في التعويضات المقضي بها؛ لأنَّ مسؤوليته تنقضي بانقضاء إجراءات التحكيم، وبالمثل، لا يحقُ للمموِّل المطالبة بتعويض في حالة الخسارة، وذلك كله ما لم تتضمن اتّفاقيَّةُ التمويلِ خلاف ذلك.
وفي ذات المعنى، قضت محكمة دلهي العُليا في 29 مايو 2023 بأنَّ: المموِّلٌ غير مسؤول عن دفع التعويضات المحكوم بها؛ تأسيسًا على أنَّ المُموِّلَ لا يُعدُّ طرفًا في اتفاق التحكيم بالرغم من دوره الحيويّ والمُؤثر، وقد كان ذلك القضاء بمناسبة نظرها استئناف أحد المموِّلين لدعوى تتلخّص وقائعها في خسارة المدعي (المموَّل) لمنازعةِ تحكيمية والحكم عليه بقيمة 1.2 مليون دولار أمريكي؛ فطالب المدعى عليه المموِّل بدفع هذا التعويض، وقد أيَّدته محكمة أول درجة- قبل إلغاء حكمها- في طلبِه على سند من القولِ بأنَّ المموِّلَ طرفُ حقيقي في عمليةِ التحكيم.
أمَّا بالنسبة إلى الأنظمةِ القانونية؛ فإنَّها إزاء تقبل فكرةِ تمويل الطرف الثالث على عدة منازل؛ إذ هناك دول رحبت بالفكرة، بل وأدرجتها في نظامها القانوني مثل هونج كونج وسنغافورة، ودولُ استنكَرت الفكرةَ مثل إيرلندا، وأخرى أسدلت على الفكرة ستار الصمتِ مثل فرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر. ويُعدُّ الفرع الإماراتي لمركز التحكيم التابع لمحكمة لندن للتحكيم الدولي (LCIA) والذي تم إنشاؤه في مركز دبي المالي العالمي باكورة المؤسسات القضائية في الشرق الأوسط التي تبنّت فكرةَ تمويلِ التحكيمِ من طرفٍ ثالثِ.
ولا جرمَ في أنَّ تمويلَ الطرفِ الثالثِ يجلبُ العديدَ من المنافعِ للطرف المُموَّل والتي يمكن اختزالُ أهمها في:
وبعد أنْ تعرفنا على ماهية تمويل الطرف الثالث ودور المموِّلِ وأبرز المنافع التي يُقدمها التمويل للطرف المُموَّل؛ يمكننا الآن وضع هذه الآلية موضع التقيّيم لسبر أغوارها وتحديد إشكالياتها ومعرفة مثالبها، وذلك على النحو الآتي بشيء من الإيجاز:
أولًا: غيابُ الشفافيَّةِ: ترغبُ جهاتُ التمويلِ عادةً في الحفاظِ على سرِّيّةِ اتفاقات التمويل وعدم إفصاح الطرف المموَّل عن أيّ أمورِ في هذا الشأن؛ ويترتبُ على هذا المساس بنَّزاهة العمليةِ التحكيمية واستقلالها، تلك الاِستقلاليّة التي تفترضُ تجرّد المُحكم من أيّ مظاهر التبعيةِ. ناهيك عن أنَّ عدم الإفصاح عن جهة التمويل قد يؤدي إلى اختلال التوازن بين طرفي النزاع، بحيث يتمتعُ طرفًا بموارد مالية كبيرة تُخوله تحملَ تكاليف الإجراءات المُرتفعة على عكس نَظيره.
ولا مريةَ في أنَّ مسألةَ الكشفِ عن اتّفاقيَّةِ التمويلِ وفحواها واحدةٌ من أكثر القضايا المُثيرة للجدل إبَّان الفترة الحالية، وقد وُجد في هذا الصدد عدة اتّجاهات: يرى الأول بضرورة الكشف عن وجود الاتّفاقيَّة ومضمُونها، وآخر يُوجب الإفصاح عن وجود الاتّفاقيَّة دون محتواها، والأخير يناهضُ فكرة الإفشاء عن وجودِ الاتّفاقيَّة أو مضمُونها بالكلية.
وفي السياق ذاته، طلب المدعى عليه في قضية “محمد تشاب وسيهيل ضد تركمانستان” بأنْ يُفصحَ المدعون عمَّا إذا كانوا قد أبرموا اتفاقات تمويل مع الغير أم لا، وفي حالة ثبوت ذلك طُلب الإفصاح عن بنود هذه الاتفاقات، بيد أنَّ المحكمةَ رفضت الطلب وذكرت بأنَّها: “تمتلكُ صلاحيات متأصلة في إصدار أوامر من تلك الطبيعة المطلوبة عند الضرورة؛ للحفاظ على حقوق الأطراف ونَّزاهة عملية التحكيم”.
ثانيًا: احتماليّةُ تضارُبِ المصالحِ: ليس ثَمَّة شك في أنَّ احتماليّة وجود تضارُب بين المُموّلين والمُحكمين هي أبرز المخاطرِ القانونية التي تقفُ كحَجر عثْرة أمام الاعتراف بآلية التمويلِ، فعلى سبيل المثال، يمكن أنْ ينظرَ المُحكمُ دعوى مُمولة من طرفِ ثالث، وفي الوقت نفسه يكون المُحكمُ مستشارًا قانونيًا لمدعي في دعوى أخرى مُمولة من نفس الطرفِ الثالث، وفي هذا الفرض يكون المُحكمُ ذا صفةِ مزدوجة؛ ومن ثَمَّ، يُدقُّ ناقوسُ الخطرِ بشأن حِيادية هذا المُحكم.
ولا تفوتنا الإشارةَ إلى أنَّ هناك تخوّفُ بشأن احتماليّة تأثر محامي المدعي في الدعوى التحكيمية بجهةِ التمويل التي تتولى دفع أتعابه بدلًا من أنْ يكونَ مُهتمًا بمصلحة المدعي فقط.
وللحدّ من خطرِ تضارُبِ المصالح خلال العمليةِ التحكيمية؛ تُفرضُ التزامات بشأن الإفصاح عن الأطراف التي تتلقى تمويلًا من طرف ثالث، ففي إسبانيا مثلًا تُلزم مدوّنةُ الممارسات الجيدة لنادي التحكيم (CEA) في قسمها السادس بالكشف عن وجود تمويل من طرف ثالث وهويَّة المموِّل ووقت إبرام اتّفاقيَّة التمويل، والأمر نفسه في هونغ كونغ وغيرهما.
ثالثًا: التأثيرُ على العمليةِ التحكيميةِ: تتّسم إجراءاتُ التحكيمِ بالخصوصيّة والسرِّيّة وبأنَّها قاصرةٌ فقط على هيئة التحكيم أو مؤسسة التحكيم (في التحكيم المؤسسي) حفاظًا على سرِّيّةِ المعلومات التِجارية المتعلقة باتفاق التحكيم؛ لذلك، لا يتم الإعلان عن وجود منازعة أو أيَّة تفاصيل إجرائية مُتّصلة بها. أمَّا في حالة التمويل، فإنَّ طرفًا أجنبيًا وهو المُموِّل يُحاط علمًا بكل صغيرةِ وكبيرةِ تتعلق بالدعوى؛ إذ يقعُ على كاهلِ الطرف المموَّل التزامًا بتقديم المعلومات إلى المموِّل في صورةِ تقارير دوريّة.
بالإضافة إلى ذلك، قد تعمل جهةُ التمويلِ على تعطيلِ بعض الإجراءات أو إطالة مدّة التحكيم إذا كان ذلك يُحققُ مصالحها.
رابعًا: تبايُنُ الأنظمةِ القانونيةِ في شأن الاعتراف بتمويل الطرف الثالث قد يترتبُ عليه اختلال موقف الأطرافِ: تتفاوت الأنظمةُ القانونيةِ فيما بينها حول مسألة الاعتراف بتمويلِ الطرف الثالث بين الاستحسان والاستهجان والسكوت؛ وعليه، قد ينتفعُ أحد الأطرافِ بالتمويل لوجوده في بلد يسمح بذلك- صراحةً أو ضمنًا- بينما يُحرمُ الطرفُ المقابل من الاستفادة بهذا النوع من التمويل نظرًا لعدم الاعتراف به في بلده.
ختامًا، غَدَا واضحًا أنَّ النزاعَ- في الوقت الراهن- صار أصلًا ماليًا يمكنُ للغير الاستثمار فيه عن طريق آلية تمويل الطرف الثالث، والتي تُعدُّ بلا شكِ آليةً ناجعةً بسبب ما تُحققه من منافع للطرف المموَّل من ناحية، ولارتفاعِ كُلْفَة التحكيم من ناحية أخرى، بيد أنَّها في الوقت نفسه قد تجعلُ العدالة أداة للمضاربةِ وتضعُ مسألةَ اِستقلاليّة ونَّزاهة المُحكمين على المحكِ.
وعلى الرغم من دورِ الممارسةِ العملية في نسجِ الخيوط الأولى ووضع سياجات بها تُكفلُ نَّزاهةُ العملية التحكيمية في ظل استخدام هذه الآلية، إلا أنَّ الحاجةَ إلى الزجِ بهذه الآلية في أحضانِ تنظيم قانوني تبلغُ أَوجها بعد أنْ تصاعدت شعبيّتها، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وأستراليا، والإمارات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال