الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تزامن صدور تقرير جديد للبنك الدولي الأسبوع الماضي مع إعلان أسماء الفائزين بجائزة نوبل لهذا العام. وقد أشار التقرير إلى الانتكاسة الكبيرة التي تعرضت لها الجهود الدولية الرامية إلى القضاء على الفقر، حيث لا تزال أفقر 26 دولة في العالم، التي يعيش فيها 40% من أشد الناس فقراً، تعاني من تزايد متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 72%، وهو أعلى مستوى له منذ 18 عاماً.
ذكر التقرير صراحة أن معظم هذه الدول تواجه صعوبات في الحفاظ على النظام بسبب الهشاشة المؤسسية والاجتماعية، مما يعوق الاستثمار الأجنبي ويعرقل الصادرات تقريباً. بينما مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2024 لثلاثة باحثين نظير أبحاثهم في عدم المساواة الاقتصادية وتحليل أسباب الفجوة بين الفئات الغنية والفقيرة، وبيان أهمية المؤسسات المجتمعية في تقليص الفوارق الشاسعة في الدخل بين الدول. وقد ركزت الأبحاث الفائزة بجائزة نوبل في السنوات الماضية أيضاً على مجال عدم المساواة ومكافحة الفقر.
عادةً ما يتناول تقرير البنك الدولي الوصفة الفعالة لعلاج المشكلات الاقتصادية، استناداً إلى تراكم خبراته عبر عقود من مراقبة الأداء الاقتصادي لدول العالم، بالإضافة إلى التعلم من الممارسة في مئات المشاريع الاقتصادية في عشرات الدول. ومن أبرز مكونات وصفة البنك الدولي للتغلب على عوائق التنمية الاقتصادية: زيادة الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية والغذاء، ومنح قدر أكبر من الحرية للقطاع الخاص، وتحرير التجارة وفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى قيام القطاع العام بتطوير هياكل البنية الأساسية والمؤسسية التنظيمية العامة. أي العمل على تقوية دور المؤسسات المجتمعية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وإصلاح وتنويع القاعدة الاقتصادية، ورفع مستوى المعيشة، وتحسين نوعية الحياة، والاهتمام بالبيئة، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتنمية الإقليمية، وتنمية وتطوير العلوم والتقنية، وتعزيز الروابط الدولية وتوسيع آفاقها.
كما تمكن الباحثون الفائزون بالجائزة من إثبات أن المؤسسات المجتمعية والحوكمة الرشيدة تساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية، وتحقيق عدالة توزيع الثروات وتقليص الفجوات في الدخل بين الدول. فقد أظهرت أبحاثهم من خلال تحليل ودراسة البيانات عن الأوضاع الاقتصادية في عدد من الدول التي تم استعمارها خلال القرون الماضية، أن تفاوت نوعية المؤسسات التي أقامها المستعمر وفقاً لأهدافه الاستعمارية هو السبب وراء الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية. حيث إن المناطق التي استعمرت بغرض الاستيطان، مثل كندا وأمريكا وأستراليا، شهدت بناء مؤسسات تدعم الملكية الفردية وتحفز الاستثمار. في المقابل، فإن المناطق التي تم استعمارها لاستغلال ثرواتها، مثل العديد من الدول الأفريقية، أسست فيها مؤسسات تركز على نهب الموارد وتيسير استغلال الأراضي وما في باطنها، واستعباد البشر لصالح الدول المستعمرة من خلال القوة أو عقود انصياع وتوزيعها بطريقة إقطاعية مما خلق عنصرية طبقية تسهل زرع بذور الفتنة والخيانة عبر مؤسسات مجتمعية نافذة.
لا شك في ضرورة وجود جهد عالمي جاد لتحسين وتعزيز المؤسسات المجتمعية وتقوية الحوكمة لضمان الشفافية والنزاهة والمساءلة. فالمؤسسات القوية والفعالة هي المفتاح لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وتقليص الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية في عالم يتطور ويتغير بسرعة غير مسبوقة. ولكن يجب أيضاً الاهتمام بالتنظيم المؤسسي غير الرسمي وفحص مدى تأثير صانعي القرارات غير الرسمية، مثل جماعات المصالح، في الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومن أبرزهم المستشارون والمحاسبون القانونيون، والمراجعون ومدراء البنوك، ومدراء مؤسسات الإقراض وتمتد القائمة لتشمل المنظمات المتخصصة والخبراء الدوليين، والتي تساهم في صناعة قرارات بتقديم الراي او النصيحة، او بعرض المعلومات اللازمة لاتخاذ القرار للتأكد من وملاءمتها للزمان او المكان وفي ذاكرة كثير من الدول العديد من القرارات التي كان لها انعكاسات اقتصادية سلبية في عدد من دول العالم سواء بسبب نقص المعلومات او دقتها او عدم ملائمتها ، أو بسبب نقص الخبرة والحكمة والأمانة.
ولا يجب ان ننسى ان بعض مقترحات البنك الدولي تتباين من وقت لأخر ومن منطقة لأخرى. فمثلا كانت الحلول والمقترحات للدول الأوروبية مختلفة تماماً عن تلك التي نصحوا بتطبيقها خلال أزمات شرق آسيا، بل تنكروا لها عندما واجهت أمريكا وأوروبا أزمتها المالية ولم ينصحوهم بما كانوا ينصحون به دول شرق آسيا خلال ازماتها مثل رفع معدلات الفائدة، وتوفير فائض في الميزانية، والسماح للبنوك والشركات المتعثرة اعلان افلاسها.
حتى أن فشل اوروبا وامريكا في الاحتفاظ بالنفوذ الاحتكاري لإنتاج وبيع السلع الاستهلاكية خلال الازمات دفعتهم الى اختراع ادوات ومنتجات مالية وهمية لتمويل التصرف بأموال غير موجودة فعليا او مقترضه وادعاء مراكز مالية غير حقيقية، دون الاستجابة لنصائح الاقرار بواقعهم والعودة لإنتاج السلع والخدمات الحقيقية، وقبول مستويات اجور تلائم ادوارهم الفعلية في الحياة الاقتصادية وبعض إجراءات التقشف لأنه في نظرهم اسلوب الفقراء، والفقر في نظرهم شرقي لا غربي.
ومن جهة أخرى فإن الحلول التي يقدمها صندوق النقد للدول النامية ضمن الشروط والطلبات التي يمليها كجهة استدانة للتأكد من سداد الدولة المدينة لديونها عادة تتضمن تقليص الانفاق والتخلص من بعض أوجه الانفاق الاستهلاكي والاستثماري وجذب استثمارات اجنبية، وتحويل بعض الاستثمارات الأساسية الدافعة للنمو لتقوم بها شركات دولية.
ولهذا تحدد الحوكمة الرشيدة فعالية وقوة المؤسسات المجتمعية الرسمية وغير الرسمية، تحت قيادة أكفاء يتحلون بالوعي والمسؤولية، ويقدمون المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. هذا يضمن تطبيق القوانين وحماية حقوق الملكية في بيئة ملائمة لنمو الدول والقضاء على الفقر وتوفير تكافؤ الفرص. كما تساهم هذه الحوكمة في تحقيق فوائد طويلة الأمد من خلال الاستثمار في الموارد البشرية وتطوير المؤسسات التعليمية كمراكز تكنولوجية تستقطب الأموال والكوادر. بجانب تنوع قنوات ومناطق الاستثمار في أسواق مفتوحة وكبيرة مثل الصين والهند وأفريقيا، دون الالتصاق فقط بأمريكا وأوروبا، يعتبر أمراً بالغ الأهمية في تحقيق التنمية المستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال