الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مقدمة
تمت الإشارة مؤخرا إلى مصطلح الجنوب النامي في القمة الـ 19 لمجموعة العشرين، وذلك بدلا من مصطلح دول العالم الثالث، والذي يُشير إلى وجود فجوة بين الدول المتقدّمة والأخرى المتأخرة، وبذلك يأتي مصطلح “دول الجنوب النامي” ليوحّد ما فرّقته الجغرافيا، هي عبارة توصّف بالضبط حالة دول “الجنوب النامي”، هذا المصطلح الذي تمت إعادة إحيائه مؤخرا والذي يشير إلى مجموعة الدول التي تملك خصائص مشتركة تتمثل في أنها: “دول نامية، دول قليلة النمو، بلدان متخلفة، اقتصادات ذات دخل منخفض”. فما أهمية هذا المصطلح تحديدا في ظل إعادة تموضع النظام العالمي؟ وما دور الصين في هذا المجال؟
تاريخيا
استخدم مصطلح “الجنوب العالمي” لوصف البلدان التي لم تتطور اقتصاداتها بالكامل بعد والتي تواجه تحديات مثل انخفاض نصيب الفرد في الدخل، والبطالة المفرطة، ونقص رأس المال. وبالتالي فإن أول ميزة من ميزات هذا المصطلح هي تلاشي الحدود الجغرافية بين الدول، تلك الحدود التي تعد بمثابة قيود تفصل بين هموم الشعوب في هذه البلدان ومشاكلها، هي بالضبط الهموم والصعوبات ذاتها والمسببات ذاتها أيضا. فعلى مدار التاريخ قد جمعت تلك البلدان مشاكل دفعتها إلى المحافظة على واقعها الصعب، بدءا من تصدير موادها الخام الرئيسية كمواد أولية إلى الدول الكبرى، مرورا بتصنيع تلك المواد وإعادة بيعها إلى الدول المتخلفة ذاتها بأسعار أعلى بحيث لا يستطيع تحمل ثمن شراء المنتوجات سوى الطبقات الغنية في تلك البلدان المتأخرة، وانتهاء بواقع زراعي متخلف وواقع صناعي متخلّع. فحتى المواد الغذائية التي قُدّمت على هيئة مساعدات إلى الدول النامية لم تهدف سوى إلى التخريب، فكما ورد في كتاب “التخلف والتنمية في العالم الثالث” لمؤلفه “جان ألبرتيني”: “إن القمح المستورد على شكل مساعدة إلى البلدان المنتجة للرز يغير عاداتها الغذائية وينافس الإنتاج المحلي منافسة خطيرة” وهو ما يعني أنه ونتيجة لذاك العالم غير المتوازن فإنه وحتى المساعدات تهدف إلى تحقيق المزيد من التدهور في العالم النامي.
وانطلاقا من هنا تضمن الجنوب العالمي تعريفات متعددة فقد استُخدم مصطلح الجنوب العالمي تقليديًا للإشارة إلى الدول المتخلفة أو المحرومة اقتصاديًا. وهذه الدول هي تلك التي تميل إلى عدم الاستقرار من الجانب الديمقراطي من الناحية السياسية، وهي في طور التصنيع في الناحية الاقتصادية، وواجهت تاريخيًا الاستعمار بشكل متكرر من قبل دول الشمال العالمي (وخاصة من قبل الدول الأوروبية). ويستخدم التعريف الثاني مصطلح الجنوب العالمي لمعالجة السكان المتأثرين سلبًا بالعولمة الرأسمالية. واستنادًا إلى أي من هذين التعريفين، فإن الجنوب العالمي ليس هو نفسه الجنوب الجغرافي. ومع ذلك، لتجنب الارتباك وعدم الدقة والخلط الذي من الممكن أن يحدث فضّل العديد من العلماء استخدام مصطلحي “الدول النامية” أو “الاقتصادات ذات الدخل المنخفض”.
قد يتساءل البعض هل الموضوع عبارة عن مصطلح أو تسمية لا سيما وأنه قد تم سابقا إطلاق عدة تسميات على واقع تلك الدول ولم يترافق الأمر مع أية تغييرات تذكر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا المصطلح الجديد في ظل الظرف العالمي الراهن ألا وهو إعادة تشكيل عالم جديد متعدد الأقطاب يبرز كهوية موحدة للعديد من البلدان التي يشملها. وقد يؤدي هذا التوحيد إلى إنشاء تعاون (جنوب-جنوب) بشكل أكثر فعالية. فتحالف بلدان الجنوب العالمي يتمثل هدفه الرئيسي في المساعدة في حل التحديات المتبادلة مثل الفقر، والنمو السكاني، والحرب، والأمراض، وقضايا الحدود. وقد تصبح البلدان المشاركة في تعاون الجنوب-الجنوب أكثر اعتمادًا على الذات، بحيث تتعزز قدراتها التكنولوجية، وتصبح أكثر قدرة على المشاركة في السوق الاقتصادية العالمية في مختلف المجالات.
الصين مثال
يشكل الصعود السلمي للصين والتحول الذي أجرته على الصعيد العالمي مثالا يُحتذى به لدولة من دول الجنوب النامي، إذ أنها وبذلك لا تدفع باقي الدول على اقتفاء أثرها بل إنها وفي الوقت ذاته ترسم طريقا لتلك الدول للعمل معا بشكل مشترك، وهو ما يساهم بربط القول بالفعل تماما كما هي الطريقة الصينية في الكثير من التجارب النهضوية.
خاصة وأنه قد سبق لمفاهيم متعددة أن ظهرت على الساحة الدولية إذ قيل آنذاك أنها ستساهم في رسم مستقبل جديد للدول المتأخرة، إلا أن لم يكن الأمر إلا كلام. فعلى سبيل المثال في عام 1974 تمكّنت دول العالم الثالث – بدعم من المحور الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي من التغلب على احتجاجات دول العالم الأول الغنية (الغرب) كما تم الإعلان عن وثيقتين تاريخيتين وهما: “الإعلان”،و”برنامج العمل بشأن إنشاء نظام اقتصادي دولي جديد”، من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. إذ تم توجيه عدة نداءات آنذاك من أجل إعادة تشكيل العالم بما يراعي حقوق الدول المهمشة إلا أنه وبحسب معظم المراجع التاريخية فإن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 حال دون استمرار حركات التحرر وقد تبع هذا الأمر بتكريس هيمنة القطب الواحد، بما يغلب مصالح الدول المتقدمة وبما يزيد حالة الدول النامية سوءا.
إلا أنه اليوم فإن الصين تعد من بين أفضل الأمثلة على كيفية تحقيق فكرة تعاون الجنوب-الجنوب. فما تنادي به الأمم المتحدة كنموذج لخروج الدول النامية من واقعها كانت قد حققته الصين في وقت سابق، فقد استطاعت تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني تخليص سكانها من الفقر المدقع، وهو ما شكل خطوة جديدة نحو البدء بتشكيل طبقة متوسطة في الصين وفقا للمبدأ الذي يشبه المجتمع الصيني بحبة زيتون تسود في وسطها الطبقة المتوسطة. فضلا عما حققته الصين داخليا من تقدم في المجال الزراعي وما صاحبه من نهضة للقرى والأرياف، وما تبعه من تطور في المجال الصناعي تحقيقا لمبدأ “الزراعة قاعدة والصناعة رائدة”، وصولا إلى اليوم وما تحقق من نهضة تكنولوجية باتت تنافس الدول المهيمنة عالميا. هذا بالإضافة إلى أن الصين بعد أن قامت بتوطيد أركانها في الداخل انطلقت بعدها نحو العالم الخارجي لمساعدة باقي الدول على اقتفاء مساراتها الخاصة بما يتناسب مع ظروفها الوطنية. فمثلا تعد مبادرة “الحزام والطريق” بمثابة مشروع استراتيجي كبير يساعد العالم على استكمال عملية إعادة تشكيل نظامه بما قد يفضي بالفعل إلى النهوض بدول الجنوب النامي ورسم خارطة عالمية أكثر توازنا، وهو ما كان مطلبا لمعظم الدول في قمة مجموعة العشرين الذي عُقد منذ أيام.
خاتمة
..أما اليوم وبعد أن تم استعراض وجود سياق تاريخي تضمن العديد من المصطلحات المتمحورة حول ضرورة النهوض بالدول النامية نحو واقع أفضل يظهر أن إعادة تشكيل العالم وظهور الصين بمثابة دولة لم تزل تصنف على أنها دولة نامية لا يشكل فقط تحفيزا للدول الأخرى على النهوض وإنما هو رسم لطريق بدا منذ بضع سنوات طريقا مستحيلا إلا أنه وعلى الرغم من كل صعوبات اليوم إلا أنه يبدو ممكنا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال