الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهدت المملكة العربية السعودية، في إطار رؤية 2030، تحولًا تنمويًا شاملاً، حيث تسعى القيادة – أيدها الله – منذ إطلاق الرؤية في عام 2016 إلى وضع المملكة على مسار تحقيق تنمية مستدامة تشمل مختلف القطاعات. وقد شملت هذه الجهود قطاع القضاء، الذي يعد أحد الركائز الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية واستقرار البيئة الاستثمارية.
انطلاقًا من هذا، عملت المملكة على اتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز مرفق القضاء، وذلك بإصدار أوامر سامية بسن تشريعات قضائية حديثة لترسيخ مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، وتوفير بيئة قانونية مواتية للأعمال والاستثمار. ضمن هذا الإطار، قامت لجنة التشريعات الأساسية بإعداد التشريعات القضائية، شملت نظام الأحوال الشخصية، ونظام الإثبات، ونظام المعاملات المدنية، والنظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، وقد تم إقرار هذه التشريعات وتطبيقها بنجاح، فيما يُنتظر صدور مشروع نظام العقوبات قريبًا. هذه الإصلاحات تشكل خطوة مهمة نحو تطوير منظومة قضائية متكاملة تحقق العدالة وتتوافق مع المعايير العالمية.
حققت المملكة تقدمًا كبيرًا في مجال تحديث القضاء خلال السنوات الأخيرة؛ فقد عززت استقلالية القضاء، وفعلّت الإجراءات القانونية، مما أسهم في تحسين بيئة الأعمال وتعزيز ثقة المستثمرين. ومن ضمن هذه الإنجازات تطوير منظومة تسوية النزاعات التجارية، حيث أُعِدت التشريعات لتسهيل وتسريع عملية التقاضي في هذا المجال بما يضمن كفاءة الإجراءات القضائية. كما تم تطوير الإطار القانوني ليتماشى مع التحولات الرقمية، مما يسهم في خلق بيئة قانونية حديثة ومتطورة تدعم الاقتصاد الرقمي وتعزز من استدامة التنمية. وقد انعكست هذه الإصلاحات إيجابيًا على التصنيف الدولي للمملكة في مؤشرات الكفاءة القضائية، وهو ما يعكس التزام المملكة بتوفير نظام قضائي موثوق يلبي احتياجات جميع الأطراف ويعزز مناخ الاستثمار.
مع ذلك، ورغم التقدم الكبير في تطوير المنظومة القضائية، فإن سرعة التحديثات في الجانب القضائي لم تواكب بالضرورة النمو السريع الذي شهدته المجالات الاقتصادية في المملكة. نظرًا للتوسع الكبير في الاستثمارات، وازدهار قطاعات جديدة كالتقنية الرقمية والمالية، أصبحت الحاجة ماسة لإنشاء محاكم اقتصادية متخصصة. هذه المحاكم ستكون بمثابة إضافة استراتيجية ضرورية لتحقيق الأهداف الطموحة لرؤية 2030، التي تهدف إلى رفع كفاءة النظام القضائي وزيادة جاذبية بيئة الأعمال، وذلك لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية بشكل أكبر.
إن إنشاء محاكم اقتصادية في المملكة سيسهم بشكل فعّال في تعزيز النظام القضائي. فمن خلال قضاء متخصص يعنى بالقضايا الاقتصادية، سيتمكن القضاة، الذين يمتلكون خبرات قانونية واسعة ومعرفة دقيقة بالقطاعات الاقتصادية المختلفة، من الفصل في القضايا الاقتصادية بفعالية أكبر، كالقضايا المصرفية، والمالية، والتأمين، والمنافسة، والملكية الفكرية. وستسهم المحاكم الاقتصادية كذلك في تسريع إجراءات التقاضي بما يوفر الوقت والتكاليف على المتنازعين ويحمي مصالح الشركات، بالإضافة إلى تعزيز الثقة بين المستثمرين المحليين والدوليين، إذ سيشعرون بأنهم في بيئة قانونية عادلة ومتطورة.
تجربة المحاكم الاقتصادية ليست جديدة؛ فعدد من الدول الكبرى والمتقدمة تبنتها وحققت نجاحًا ملحوظًا في تسريع إجراءات الفصل في النزاعات الاقتصادية المعقدة. من هذه الدول، الولايات المتحدة التي تمتلك محاكم اقتصادية متخصصة ضمن نظامها القضائي، الأمر الذي ساهم في تسريع فض النزاعات المتعلقة بالشركات الكبرى والاندماجات. أما في أوروبا، فالمملكة المتحدة تعتمد محاكم اقتصادية متطورة، حيث تقوم بالفصل في عدد كبير من النزاعات، مما جعلها من أهم المحاكم التي تستقطب الشركات لحل النزاعات المالية. وعلى مستوى الدول العربية، فإن مصر وقطر والأردن أنشئت محاكم اقتصادية تختص بالفصل في النزاعات التجارية والاقتصادية وتعمل تحت نظام قضائي خاص، وقد ساهمت هذه المحاكم في تقليص مدة النزاعات وتحقيق الشفافية القانونية التي تشجع المستثمرين الأجانب.
إن إنشاء المحاكم الاقتصادية في السعودية سيحقق عددًا من الفوائد المهمة، أبرزها تسريع عملية التقاضي في القضايا الاقتصادية المعقدة، مما يقلل من التكاليف والمخاطر المالية المرتبطة بإجراءات التقاضي الطويلة. كما توفر المحاكم الاقتصادية العدالة المتخصصة؛ إذ تضمن أن القضاة يتمتعون بمعرفة واسعة في القوانين الاقتصادية، مما يزيد من جودة الأحكام ودقتها ويعزز الثقة في النظام القضائي. يضاف إلى ذلك، أن المحاكم الاقتصادية ستسهم في تخفيف الضغط عن المحاكم العامة، مما يسمح لها بالتركيز على القضايا الاجتماعية والمدنية الأخرى، وهو ما يؤدي إلى تحسين أداء النظام القضائي بشكل عام. كذلك، يساعد القضاء الاقتصادي المتخصص في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، حيث يكون المستثمرون على دراية بوجود نظام قضائي عادل وفعال يوفر الحماية الكافية لاستثماراتهم. كما أن ذلك سيحقق نقل للجان القضائية المصرفية والتمويلية والتأمينية والضريبية والأوراق المالية من تحت مظلة الجهات الادارية لتكون تحت مظلة القضاء مما يزيد من تمكينها واستقلاليتها وحياديتها.
وبناءً على ما سبق، يبدو أن إنشاء المحاكم الاقتصادية في المملكة العربية السعودية قد أصبح ضرورة ملحة لدعم النمو الاقتصادي الطموح وتلبية احتياجات بيئة الأعمال المتسارعة. إصدار نظام جديد يعيد هيكلة اللجان القضائية والمحاكم التجارية لتعمل تحت مظلة المحاكم الاقتصادية من شأنه أن يعزز مناخ الاستثمار، ويضيف قيمة نوعية لمجتمع الأعمال السعودي. ويؤمل أن يكون هذا المشروع جزءًا من الاستراتيجية الوطنية لتطوير المنظومة القضائية، كما يؤمل أن تكون المبادرة التشريعية التي أقرها مجلس الشورى الهادفة إلى تمكين القانونيين من العمل في السلك القضائي عموماً والقضائي الاقتصادي خصوصاً ضمن مكونات هذا الاستراتيجية الوطنية المهمة.
بهذا الشكل، فإن نظام المحاكم الاقتصادية سيعزز تصنيف المملكة في المؤشرات العالمية الخاصة بالشفافية والعدالة القضائية، ويحقق الأمان والاستقرار لرأس المال، مما يرفع من جاذبية الاقتصاد السعودي عالميًا ويجعله وجهة مفضلة للاستثمارات المحلية والأجنبية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال