الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بدأت أزمةُ 2008 نتيجةً لعدةِ عواملَ مترابطةٍ، بدءًا من فقاعةِ سوقِ الإسكانِ التي شهدتها الولاياتُ المتحدةُ في أوائلِ العقدِ الأولِ من القرنِ الحادي والعشرين، والتي أدت إلى ارتفاعٍ كبيرٍ في أسعارِ المنازلِ، مما أدى إلى إنشاءِ فقاعةٍ عقاريةٍ. كانت الأسعارُ مرتفعةً بشكلٍ غيرِ طبيعيٍّ، مما جعلَ العديدَ من المشترينَ يتخذون قراراتِ شراءٍ غيرَ مدروسةٍ، بدعمٍ من البنوكِ التي قامت بإصدارِ قروضٍ عقاريةٍ عاليةِ المخاطرِ لمشترينَ غيرِ مؤهلينَ، مما زادَ من عددِ القروضِ المعرضةِ للتعثرِ. وقد قامتِ البنوكُ، بحملةٍ قويةٍ حينها، لتسويقِ هذهِ القروضِ بشكلٍ جذابٍ، مما شجعَ الكثيرينَ على الاقتراضِ.
إثرَ ذلك، وقبلَ الانهيارِ، قامتِ البنوكُ بتجميعِ القروضِ العقاريةِ وبيعِها كأوراقٍ ماليةٍ معقدةٍ على شكلِ أوراقٍ ماليةٍ مدعومةٍ برهوناتٍ عقاريةٍ (Mortgage–Backed Securities) لمستثمرينَ في جميعِ أنحاءِ العالم. وقد زادتْ هذهِ العمليةُ من المخاطرِ الماليةِ والنظاميةِ، حيث كانتِ المخاطرُ موزعةً على نطاقٍ واسعٍ ولكن لم يتمْ فهمُها بالكامل.
ولكي تنطلي عمليةُ بيعِ هذهِ الأصولِ المسمومةِ، دعمتْ وكالاتُ التصنيفِ الائتمانيِّ هذهِ التقييماتِ المبالغَ فيها بنماذجَ غيرِ دقيقةٍ لتقييمِ المخاطرِ المرتبطةِ بالأوراقِ الماليةِ المدعومةِ بالرهنِ العقاريِّ، التي صنفتْها على أنها آمنةٌ، مما أدى إلى استثماراتٍ ضخمةٍ في أصولٍ محفوفةٍ بالمخاطرِ.
وبحلولِ عامِ 2006، بدأتْ أسعارُ المنازلِ في الانخفاضِ، مما أدى إلى ارتفاعِ معدلاتِ التخلفِ عن السدادِ. فقدَ العديدُ من المقترضينَ العاجزينَ عن سدادِ قروضِهم منازلَهم، مما أدى إلى تفاقمِ الأزمةِ. ومعَ تزايدِ معدلاتِ التخلفِ عن السدادِ، بدأتْ المؤسساتُ الماليةُ الكبرى في مواجهةِ خسائرَ ضخمةٍ. في سبتمبرَ 2008، انهارَ بنكُ “ليمان براذرز“، مما أدى إلى فقدانِ الثقةِ في النظامِ المالي. وتسببتْ الضغوطُ على البنوكِ في نقصِ السيولةِ، مما جعلَ من الصعبِ على المؤسساتِ الماليةِ الحصولَ على التمويل. مباشرةً، انتشرتْ حالةٌ من الذعرِ في الأسواقِ الماليةِ، مما نتجَ عنه تدهورٌ في الاقتصادِ بشكلٍ عام. واستجابةً للأزمةِ، قامتِ الحكومةُ الأمريكيةُ والبنكُ الاحتياطيُّ الفيدراليُّ باتخاذِ إجراءاتٍ طارئةٍ، بما في ذلك حزمُ الإنقاذِ الماليةِ والتدخلاتِ النقديةِ. تسببتْ هذهِ العواملُ مجتمعةً في أزمةٍ ماليةٍ عالميةٍ كان لها آثارٌ واسعةٌ النطاقِ على الاقتصادِ العالمي، مما أدى إلى ركودٍ اقتصاديٍّ طويلِ الأمدِ.
مرةً أخرى، نحن أمامَ حالةٍ اقتصاديةٍ تجلتْ فيها آثارُ الأفكارِ الاقتصاديةِ الأساسية، إذ ظهرتْ في الأزمةِ ملامحُ الطلبِ والعرضِ الوهميينِ (يدُ سميث المشلولةِ)، وذعرٌ نفسيٌّ بينَ المقترضينَ (اقتصادٌ سلوكيٌّ)، ثم تدخلٌ حكوميٌّ سياسيٌّ بحزمِ إنقاذٍ متعددةٍ وتدخلاتٍ نقديةٍ (يدُ كينز الجديدةِ). لقد أنقذَ الاقتصادُ السياسيُّ والتدخلُ الحكوميُّ العديدَ من الشركاتِ من الانهيارِ، وحفزَ الاقتصادَ، وأعادهُ ليس في الولاياتِ المتحدةِ فقط بل في معظمِ دولِ العالمِ إلى مسارهِ الطبيعيِّ، متجاوزًا كارثةً كادتْ تحلُّ بالعالمِ.
في الاقتصادِ السياسيِّ، تتجلى عدةُ اتجاهاتٍ وتحدياتٍ رئيسيةٍ، مثلَ العولمةِ المتزايدةِ من خلالِ استمرارِ زيادةِ الترابطِ الاقتصاديِّ بينَ الدول، وهو أمرٌ يؤثرُ على السياساتِ الاقتصاديةِ لكلِّ دولةٍ على حدةٍ، ويعززُ من أهميةِ التعاونِ الدوليِّ. وعليه، سيتعينُ على الدولِ التكيفُ مع التغيراتِ في التجارةِ والاستثمارِ العالمي. وأمرٌ مؤثرٌ آخرُ هو الابتكاراتُ التكنولوجيةُ، مثلَ الذكاءِ الاصطناعيِّ والبلوك تشين، التي ستغيرُ من أساليبِ الإنتاجِ والتوزيعِ، مما سيتطلبُ إعادةَ التفكيرِ في السياساتِ الاقتصاديةِ التقليديةِ وكيفيةِ تنظيمِ الأسواقِ العالميةِ. القضايا البيئيةُ أصبحتْ أيضًا محورًا رئيسيًا في الاقتصادِ السياسيِّ، وسيتعينُ على الحكوماتِ تبني سياساتٍ مستدامةٍ لمواجهةِ التحدياتِ المناخيةِ، مما سيعيدُ تشكيلَ أولوياتِ التنميةِ الاقتصاديةِ. إنَّ تزايدَ الفجواتِ الاقتصاديةِ بينَ الأفرادِ والدولِ قد يؤدي بدورهِ إلى توترٍ اجتماعيٍّ يحتاجُ إلى حلولٍ مستدامةٍ ترتكزُ على العدالةِ الاجتماعيةِ وتوزيعِ الثروة. كما أظهرتْ جائحةُ كورونا أهميةَ الصحةِ العامةِ في الاقتصادِ، ومن المؤكدِ أنَّ صناعَ السياساتِ يسعونَ إلى بناء نظمٍ اقتصاديةٍ أكثرَ مرونةً وقادرةً على مواجهةِ الأزماتِ والكوارثِ والجوائحِ المستقبليةِ. وأخيرًا، فإنَّ التركيزَ على الاقتصادِ الأخضرِ والتنميةِ المستدامةِ هو مطلبٌ هامٌّ للحصولِ على نماذجَ اقتصاديةٍ جديدةٍ تعززُ من الابتكارِ وتقللُ من الاعتمادِ على المواردِ غيرِ المتجددةِ.
سيكونُ مستقبلُ الاقتصادِ السياسيِّ معقدًا ومتعددَ الأبعادِ، حيث يتطلبُ من صناعِ القرارِ التفكيرَ في كيفيةِ التنسيقِ بينَ الأبعادِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والبيئيةِ على مستوى الكوكب، وليسَ على مستوى الدول.
الرئيسُ الأمريكيُّ المنتخبُ دونالد ترمب صرح بأنه سيفرضُ تعريفاتٍ جمركيةً تصلُ إلى 60٪ على السلعِ المصنعةِ في الصين بالذات، كما يقترحُ تعريفةً جمركيةً تتراوحُ بينَ 10٪ و20٪ على السلعِ المصنعةِ في بلدانٍ أخرى. وتقدرُ لجنةُ الميزانيةِ الفيدراليةِ أنَّ سياساتهِ الماليةَ ستضيفُ 7.75 تريليونَ دولارٍ إضافيةً من الديونِ الحكوميةِ على مدى العقدِ المقبل، ومن المتوقعِ أن ترتفعَ إثرَ ذلكَ أسعارُ الرهنِ العقاريِّ، التي تميلُ إلى متابعةِ العائدِ على السنداتِ الحكوميةِ لمدةِ 10 سنواتٍ. تعهدَ ترامب بخفضِ تكاليفِ الطاقةِ الأمريكيةِ إلى النصفِ في غضونِ عامٍ من توليهِ منصبه، وهو جزءٌ أساسيٌّ من خطتهِ للحدِّ من التضخم. في سبتمبرَ الماضي، قال لجمهورٍ في الناديِ الاقتصاديِّ في نيويوركَ: “كانتِ الطاقةُ هي التي تسببتْ في مشكلتنا في البداية، والآن الطاقةُ ستعيدُنا.”
اقترحَ ترمب فتحَ مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي الفيدراليةِ لتطويرِ الإسكانِ، إذ تمتلكُ الحكومةُ أكثرَ من ربعِ الأراضي في الولاياتِ المتحدة، كما اقترحَ ترحيلَ ملايينِ المهاجرينَ، جزئيًا لحلِّ النقصِ المستمرِّ في المساكنِ في البلاد. خلالَ فترةِ ولايتهِ الأولى في البيتِ الأبيض، حثَّ ترامب في كثيرٍ من الأحيان بنكَ الاحتياطيِّ الفيدراليِّ على خفضِ أسعارِ الفائدةِ بقوةٍ أكبرَ، وفي بعضِ الأحيان وبخَ رئيسَ بنكِ الاحتياطيِّ الفيدراليِّ جيروم باول، الذي عينهُ، والذي تنتهي فترةُ ولايتهِ في عامِ 2026، مما يمنحُ ترامبَ الفرصةَ لترشيحِ خليفتِه. تأسسَ البنكُ الفيدراليُّ ليكونَ معزولًا عن الضغطِ السياسيِّ، حتى يتمكنَ من اتخاذِ قراراتٍ لا تحظى بشعبيةٍ عند الضرورةِ للحدِّ من التضخم. هذا الاستقلالُ أساسيٌّ لمصداقيةِ البنكِ. ومع ذلكَ، فقد استهزأَ ترامبُ بشكلٍ روتينيٍّ بهذهِ القاعدةِ، مما يشيرُ إلى أنَّ الرئيسَ يجب أن يكونَ له رأيٌ في السياسةِ النقدية.
خاتمًا، هل سيكونُ في السنواتِ الأربعِ القادمةِ الصوتُ المسموعَ، وهو صوتُ المطرقةِ الترامبيةِ الجديدةِ وهي تحطمُ قواعدَ ومفاصلَ شبكةِ العولمةِ الاقتصاديةِ العالميةِ وتحولها لفكرةٍ منسيةٍ وتستعرُ الحروبُ التجاريةُ خلالها، أم هي فقط للضغطِ التفاوضيِّ المبكر؟ وأنَّ الاقتصادَ السياسيَّ البراغماتيَّ سيلعبُ دورًا في التوازنِ الاقتصاديِّ المنطقيِّ بينَ أهلِ الكوكبِ الأزرق؟ ننتظرُ ونرى!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال