الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ملامح العصر الجديد في الأسواق المالية
استكمالًا لحديثنا السابق عن دور التقنيات الحديثة في تطوير الأسواق المالية، حيث تناولنا في مقال سابق التداول عبر الخوارزميات (Algorithmic Trading)، ننتقل في هذا المقال للحديث عن التداول الآلي باستخدام الذكاء الصناعي (AI Automated Trading). في الوقت الذي تتسارع فيه التطورات التكنولوجية وتدخلها في شتى مجالات الحياة، لا يمكن إغفال تأثيرها في عالم الاستثمار. فقد شهد السوق المالي طفرة نوعية في استخدام هذه التقنيات المتطورة لتبسيط العمليات وزيادة الكفاءة وتقليل المخاطر.
دائمًا ما يكون للاستثمار نصيب من هذه التقنيات، بدءًا من الحوسبة السحابية (Cloud Computing) والبيانات الضخمة (Big Data)، مرورًا بتقنيات التحليل المتقدم والخوارزميات، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، الذي يعد الأقوى والأحدث بينها. في هذا المقال، سوف نستعرض كيفية عمل التداول الآلي باستخدام الذكاء الصناعي، ونسلط الضوء على الفروقات بينه وبين الأنواع الأخرى من التداول التقني، بالإضافة إلى مناقشة أهم الفوائد والتحديات التي تواجه المستثمرين في استخدام هذه التقنية.
التداول الآلي باستخدام الذكاء الاصطناعي: كيف يعمل؟
التداول الآلي باستخدام الذكاء الاصطناعي هو عملية تعتمد على الأنظمة الذكية التي تستخدم البيانات الضخمة والخوارزميات لتحليل الأسواق والتنبؤ بحركة الأسهم واتخاذ قرارات الشراء أو البيع. هذه الأنظمة تستطيع تحليل البيانات المالية، الأخبار الاقتصادية، والتوجهات السوقية، بالإضافة إلى التحليل الفني والأساسي للأسواق، وبالتالي اتخاذ قرارات في الوقت الفعلي بسرعة تفوق قدرة البشر.
الأنظمة الآلية تقوم بكل هذا بشكل تلقائي، مما يتيح للمستثمرين تحقيق أرباح حتى أثناء نومهم، دون الحاجة إلى متابعة الأسواق على مدار الساعة. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتنبأ بارتفاع سهم معين بناءً على مجموعة معقدة من العوامل، فيشتري السهم في لحظة مثالية ثم يبيعه عندما يحقق أعلى قيمة.
نسبة الخطأ في قرارات الذكاء الاصطناعي مقارنة بالبشر:
عندما نتحدث عن تداول الذكاء الاصطناعي، تبرز قضية الدقة في اتخاذ القرارات. من المعروف أن البشر معرضون للتأثر بالعواطف، وقد يتخذون قرارات غير رشيدة نتيجة للخوف أو الجشع، وهو ما يؤدي إلى أخطاء في التداول. في المقابل، تعتمد أنظمة التداول بالذكاء الصناعي على البيانات والتحليل فقط، مما يقلل من احتمال الخطأ الناجم عن العواطف.
لكن هذا لا يعني أن أنظمة الذكاء الاصطناعي خالية من الأخطاء، فهي تعتمد على الخوارزميات والبيانات المدخلة، وأي خطأ في هذه البيانات أو خلل في الخوارزمية قد يؤدي إلى قرارات غير صائبة. لكن الإحصاءات تشير إلى أن أخطاء الذكاء الاصطناعي في التداول أقل بكثير من تلك التي يرتكبها البشر. الدراسات الحديثة تشير إلى أن الأنظمة الذكية تتفوق على البشر في تحقيق العوائد وتقليل المخاطر بنسبة تقارب 70%، خاصة في الأسواق الكبيرة والمتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا.
الفرق بين التداول الآلي والتداول عبر الخوارزميات:
التداول عبر الخوارزميات هو الأساس الذي بني عليه التداول الآلي. كلاهما يعتمد على التكنولوجيا لتحليل البيانات واتخاذ القرارات، لكن الفارق الأساسي يكمن في مستوى الذكاء. التداول عبر الخوارزميات يستخدم مجموعة ثابتة من القواعد والمعادلات الحسابية لاتخاذ قرارات التداول، بينما التداول بالذكاء الاصطناعي يعتمد على التعلم الآلي (Machine Learning) وتحليل البيانات الضخمة لتطوير استراتيجيات جديدة وتحسين الأداء مع مرور الوقت.
بمعنى آخر، الخوارزميات تتبع قواعد محددة تم برمجتها مسبقًا، في حين أن الذكاء الاصطناعي قادر على التعلم والتكيف مع تغيرات السوق واتخاذ قرارات مبنية على أنماط جديدة غير متوقعة.
الفرق بين المستشار الآلي والتداول الآلي:
هناك فارق جوهري بين المستشار الآلي (Robo-advisor) والتداول الآلي بالذكاء الصناعي. المستشار الآلي هو نظام يقدم نصائح استثمارية مخصصة بناءً على تحليل بيانات العميل وأهدافه المالية. لا يقوم المستشار الآلي بتنفيذ الصفقات بنفسه، بل يوجه المستثمر إلى أفضل القرارات بناءً على استراتيجيات معينة.
أما التداول الآلي بالذكاء الاصطناعي، فهو يعتمد على اتخاذ القرارات وتنفيذها دون تدخل بشري. بمعنى آخر، المستشار الآلي يقدم المشورة، بينما التداول الآلي ينفذ العمليات تلقائيًا بناءً على تحليلاته.
أبرز مستخدمين للتداول الآلي بالذكاء الصناعي:
للتداول الآلي باستخدام الذكاء الاصطناعي جذور عميقة في الأسواق المالية العالمية، ويُعتبر “جيم سيمونز” (Jim Simons) عراب هذا المجال. بفضل استخدامه الواسع للخوارزميات والذكاء الاصطناعي، في الولايات المتحدة، تُعد صناديق التحوط والبنوك الاستثمارية الكبرى من أبرز مستخدمي هذه التقنيات الحديثة. على سبيل المثال:
صندوق التحوط الشهير الذي يديره جيم سيمونز، يعتبر من الرواد في استخدام الخوارزميات والذكاء الاصطناعي في التداول. يُقال إن صندوقهم الرئيسي، Medallion Fund، حقق عوائد استثنائية تفوق 66% سنويًا قبل الرسوم على مدى عدة سنوات. يعتمد الصندوق على نماذج رياضية وتحليل بيانات كبير لاتخاذ قرارات التداول، مما ساعدهم في تحقيق نجاح استثنائي.
2.صندوق “Bridgewater Associates – Pure Alpha”:
يعتبر صندوق Bridgewater Associates، الذي يديره راي داليو، من بين أكبر صناديق التحوط في العالم، وهو يعتمد على التحليل الكمي والذكاء الصناعي لتحليل الأسواق واتخاذ قرارات تداول استراتيجية. صندوق Pure Alpha التابع لهم حقق عوائد بارزة خصوصًا خلال الأزمات المالية مثل الأزمة المالية العالمية في 2008، حيث استطاعوا تحقيق أرباح عندما كانت الأسواق الأخرى تخسر.
التداول عالي التردد (HFT) يعتمد بشكل كبير على الخوارزميات والذكاء الاصطناعي. شركات مثل Citadel Securities وVirtu Financial تهيمن على هذا المجال وتستخدم الذكاء الاصطناعي لاتخاذ آلاف القرارات في الثانية الواحدة. في عام 2021، حققت Virtu Financial أرباحًا تقارب 2 مليار دولار نتيجة لهذه الاستراتيجيات، مما يظهر قوة الذكاء الصناعي في التداول الآلي.
4.صندوق “BlackRock – Aladdin Platform”:
شركة BlackRock، وهي أكبر مدير للأصول في العالم، تستخدم نظام الذكاء الاصطناعي Aladdin لإدارة المخاطر وتحليل الأسواق. يُستخدم هذا النظام في اتخاذ قرارات استثمارية لمئات المليارات من الدولارات. في عام 2020، أثبت النظام فعاليته في إدارة المخاطر خلال فترات عدم الاستقرار الاقتصادي بسبب جائحة كوفيد-19.
هل السوق السعودي مستعد للتداول بالذكاء الصناعي؟
السوق السعودي يظهر دعمًا متزايدًا لدخول التكنولوجيا المتقدمة في القطاع المالي. هيئة السوق المالية، من خلال مختبر التقنية المالية (FinTech Lab)، تمكّن الشركات من اختبار الحلول المبتكرة في بيئة مراقبة ومنظمة. إضافةً إلى ذلك، يأتي برنامج تطوير القطاع المالي ضمن رؤية 2030 ليؤكد على “تمكين” الشركات من استخدام الذكاء الاصطناعي في تقديم خدمات تداول ذكية وآمنة.
هدف هذا البرنامج ليس فقط تحسين الأداء المالي، بل أيضًا تحفيز الابتكار من خلال تشجيع الشركات المالية على تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المتقدمة في التداول. من خلال هذه المبادرات، يتم تهيئة البيئة التنظيمية والتشريعية لدعم هذا التحول.
مع أن السوق السعودي يمهد الطريق لتبني هذه التقنيات، يبقى التنفيذ على نطاق واسع مستقبليًا ويتطلب تطوير القدرات المحلية والبنية التحتية. التحدي الحقيقي يكمن في تأهيل الشركات والمؤسسات للاستفادة الكاملة من هذه التقنيات وتطوير قدرات الكوادر المحلية لمواكبة هذا التحول.
ختاماً، التقنية لا تتوقف، وما نراه اليوم من تقدم في مجال التداول بالذكاء الاصطناعي هو مجرد البداية لعصر جديد في الأسواق المالية. العالم المالي كما نعرفه سيتغير جذريًا، وتحديات المستقبل لن تكون في مجرد تحسين العوائد أو الحد من المخاطر، بل في إعادة تعريف دور الإنسان في عالم تهيمن عليه الآلة.
هل نحن مستعدون؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه بجدية. الذكاء الاصطناعي يعدنا بسرعة وكفاءة لا مثيل لها، ولكنه يأتي أيضًا بتحديات معقدة ومخاطر جديدة. المستثمرون الذين يواكبون هذه التحولات ويستعدون لتبني هذه التقنيات سيقودون الأسواق في المستقبل، بينما سيتخلف الآخرون عن الركب.
في النهاية، التطور قادم لا محالة، والقرار يعود لنا: هل نقف على الهامش، أم نكون في طليعة من يقود هذا التغيير؟ الأسواق لن تنتظر، والتكنولوجيا لن تتباطأ، ومن يتأخر عن الركب قد لا يحصل على فرصة ثانية. المستقبل ينتمي لمن يجرؤ على الابتكار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال