الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في لحظة فارقة من مسيرة التطور التقني، ظهر الذكاء الاصطناعي ليغير ملامح الحياة كما نعرفها، حاملاً معه وعودًا بالابتكار والتنمية، لكنه في الوقت ذاته يطرح أسئلة ملحة حول التحديات التي قد تصاحبه. في هذا السياق، جاء إعلان الرياض، الذي أطلق خلال منتدى حوكمة الإنترنت بتنظيم الأمم المتحدة وبدعم من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ليؤكد على ضرورة بناء إطار متين يُوظف هذه التقنية بشكل مسؤول ومستدام. يتناول الإعلان محاور محورية تشمل تعزيز الشمول الرقمي، تحقيق التنمية المستدامة، ضمان الأمن السيبراني، وتطوير هوية رقمية عالمية، مع التركيز على حماية المجتمعات من مخاطر الاستخدام غير المنضبط.
إعلان يُجسّد رؤية عميقة تُوازن بين طموحات التقنية وحاجات الإنسان، ويضع حجر الأساس لعصر رقمي جديد يستند إلى الشفافية، العدالة، والابتكار المسؤول.
الذكاء الاصطناعي اليوم لم يعد ترفًا تقنيًا، بل أصبح ركيزة أساسية للتنمية. من المتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي بنحو 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، مما يجعله أحد أكثر العوامل تأثيرًا في تعزيز الاقتصاد العالمي.
في مجالات التعليم، يُسهم الذكاء الاصطناعي في تخصيص تجارب التعلم لتناسب الفروق الفردية، والذي يتيح فرصًا متساوية لجميع الطلاب بغض النظر عن بيئاتهم أو ظروفهم.
أما في الصحة، فتقنيات الذكاء الاصطناعي تُحسّن من كفاءة الرعاية الصحية وتتيح حلولًا تشخيصية مبتكرة، خاصة في المناطق التي تفتقر للخدمات التقليدية.
إلى جانب ذلك، يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا رئيسيًا في حماية البيئة وتحقيق الاستدامة. يمكنه، كما أشارت دراسات بيئية حديثة، أن يُحسّن الاستجابة للكوارث من خلال التنبؤ بالأحداث المناخية بدقة وتحليل البيانات لتفادي المخاطر البيئية.
كما يُعزّز الذكاء الاصطناعي الشمول الاقتصادي من خلال تمكين الشركات الناشئة والصغيرة من الوصول إلى حلول رقمية مُبتكرة تُحسّن إنتاجيتها وتُقلّل تكاليفها.
لكن مع هذه الإمكانيات الهائلة، تُواجه حوكمة الذكاء الاصطناعي عقبات معقدة تتطلب حلولًا حاسمة. أولى هذه العقبات تتمثل في الأمن السيبراني، حيث كشف تقرير Gartner 2023 أن 30% من الهجمات السيبرانية المتقدمة ستعتمد على الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2025. أيضا قد تستخدم التقنية نفسها لتطوير أدوات اختراق يُهدّد البنية التحتية الرقمية ويضع الخصوصية الفردية على المحك. اضافة لذلك التحيز في البيانات والخوارزميات يُمثل عقبة أخرى تهدد نزاهة القرارات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، كما أوضحت دراسة صادرة عن جامعة ستانفورد 2022، إذ تؤدي البيانات غير المتوازنة إلى مخرجات مجحفة قد تُعمّق الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.
الفراغ التشريعي يُضاعف من خطورة المشهد، حيث لا تزال العديد من الدول تفتقر إلى أطر حوكمة متماسكة تضمن الاستخدام المسؤول لهذه التقنية. وفي ظل غياب هذه التشريعات، قد يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة تُستخدم في تطبيقات تُثير جدلًا أخلاقيًا، مثل المراقبة المفرطة أو تطوير أسلحة ذكية. كذلك، يُشكّل التأثير المتوقع على سوق العمل تحديًا كبيرًا؛ فالمنتدى الاقتصادي العالمي حذّر من فقدان 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، مع خلق 97 مليون وظيفة جديدة تتطلب مهارات تقنية متقدمة، مما يستدعي ضرورة تأهيل القوى العاملة لمواكبة هذه التحولات.
إعلان الرياض يُقدّم خارطة طريق لتجاوز هذه العقبات من خلال التركيز على مجموعة من الإجراءات الاستراتيجية. لذلك يأتي تعزيز الأمن السيبراني في مقدمة الأولويات عبر تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي مضادة قادرة على التصدي للهجمات الرقمية المتقدمة.
وتعد مكافحة التحيز في الخوارزميات إجراءً حاسمًا لضمان العدالة الرقمية من خلال اعتماد أدوات تقييم مُتخصصة مثل AI Fairness 360 التي تُراقب وتُعالج الانحرافات في البيانات.
كما يشدّد الإعلان على أهمية تطوير تشريعات دولية تُوحّد الجهود العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وتعزّز الشفافية والمساءلة في استخداماته.
الرؤية المستقبلية التي يُقدمها إعلان الرياض تتجاوز مجرد مواجهة التحديات إلى بناء عالم رقمي يُحقّق التوازن بين التقنية والإنسانية. من خلال تطوير الهوية الرقمية العالمية، يُمكن للأفراد والشركات المشاركة بسلاسة في الاقتصاد الرقمي المتصل عبر الحدود، مما يُسهم في تحقيق قيمة اقتصادية هائلة، كما أكّد الإعلان. الهوية الرقمية العالمية ليست مجرد وسيلة للوصول إلى الخدمات، بل أداة لتمكين الأفراد وسد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية على نطاق عالمي. في الوقت نفسه، يُعدّ تعزيز السلامة عبر الإنترنت أحد المحاور الأساسية؛ إذ يُوصي الإعلان بوضع تشريعات صارمة لحماية البيانات والخصوصية، إلى جانب مكافحة المعلومات المضللة التي أصبحت خطرًا حقيقيًا يُهدّد ثقة المجتمعات.
إعلان الرياض يُقدّم رؤية طموحة تُلهم العالم للانتقال إلى عصر جديد من الابتكار المسؤول ،عندما تتضافر الجهود الدولية وتُطبّق المعايير المشتركة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُصبح أداة للعدالة والشمولية والاستدامة. هذه المبادرة تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا لتكون علاقة تكاملية تُحافظ على القيم الإنسانية وتُحقّق التنمية المنشودة. يُذكّرنا إعلان الرياض أن الابتكار بلا حوكمة هو خطر لا يمكن تجاهله، وأن الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا يبدأ من المسؤولية والوعي بتحديات عصرنا الرقمي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال