الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تعمل اليوم كليات القانون على تطوير التكامل بين القانون والتخصصات المختلفة حتى يصبح العلم أكثر شمولا لقطاعات المعرفة من جهة، وحتى يدرك الخريج التفاصيل والآليات الخاصة بالعلوم المرتبطة بتخصصه، فلا يجوز أن تكون معرفته عن تلك العلوم الموازية لتخصصه معرفة سطحية. أما الرؤية العلمية التي تشكك بأهمية العلوم الموازية للتخصصات الأكاديمية، فهي في الواقع رؤية خشبية تفتقر إلى المرونة، ويعوزها إدراك البيئة المحيطة بالقانون رغم أنها تخضع لسلطته، وهي رؤية أصبحت تساهم بالجهل الأكاديمي وفق معايير عصرنا هذا.
علاقة الاقتصاد بالقانون..
لا يمكن النظر إلى الاقتصاد دون المرور بصمام الأمان الخاص بهذا العلم، والذي هو السياسة الاقتصادية؛ فهي التي تحدد المنهج الاقتصادي الذي سيتم من خلاله تشغيل الموارد وصرف النفقات ومراقبة حركة الناتج المحلي الإجمالي. بالمقابل، فإن القانون ليس مجرد نظريات وتوجهات فكرية وأخلاقية، بل إن صمام الأمان الذي يضمن تنفيذ الرؤية القانونية هو التشريع؛ ذلك الذي يضبط القواعد من حيث صياغتها، ونطاق شمولها، وإلزاميتها، والأشخاص المخاطبين بها، واستثناءاتها، والجزاءات المترتبة على انتهاكها.
بناء عليه، نستطيع الوصول إلى استنتاج بسيط؛ وهو أن الاقتصاد بحاجة إلى صياغة تشريعية قادرة على تطبيق السياسة الاقتصادية من جهة، وأن القانون بحاجة إلى صياغة تشريعية قادرة على فرض القواعد الملزمة من جهة أخرى. وهكذا يلتقي العلمان -الاقتصاد والقانون- في نقطة التشريع؛ فكلما كان التشريع دقيقا ومتناغما بين القواعد القانونية التي تنظم الاقتصاد، كلما نجحت السياسة الاقتصادية في رسم ملامح المنهج المالي والنقدي والتشغيلي لقطاعات الاقتصاد الوطني. هذه العلاقة ليست من النوع الشكلي أو السطحي، بل هي علاقة بنيوية جوهرية؛ لأن التشريع الاقتصادي ينظم دقائق البيئة التي تجري فيها الشرايين الاقتصادية، وهو تعامل مصيري يجمع بين العقل القانوني والاقتصادي.
اقتصاد أم قانون: الوقوف على قدم واحدة
الدولة التي تقف على قدم واحدة اقتصادية فقط، ستفشل في تطبيق سياستها لأنه لا يوجد قانون منضبط يفرض الرؤية الاقتصادية، وستجد الأفراد والتجار والمستهلكين الكل يسعى في سبيل مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة.أما الدولة التي تقف على قدم واحدة قانونية فقط، ستفشل في بناء اقتصاد متوازن وقوي، لأن القواعد التشريعية غير المتلائمة مع البيئة الاقتصادية للدولة والتي لا تراعي طبيعتها ولا تساهم في تحقيق أهدافها، هذه القواعد ستكون عبارة عن حبر على ورق، لأنها عبارة عن قواعد مستوردة من علم قانوني اجتماعي نظري لا يدرك كيفية قراءة حاجات الدولة الاقتصادية ولا استقراء الخطط الاقتصادية المطلوبة ولا الحلول الإبداعية للأزمات المالية المتربصة بأي اقتصاد.
بناء عليه، يجب على الدولة أن تقف على قدمين؛ أولهما (الاقتصادية) تدرس واقع الاقتصاد وتحدد مشكلاته، واحتياجاته، وتضع الخطط لإصلاحه، وتسهيل انطلاقته نحو الثبات والقوة المالية، وربحية الموارد، والسمعة التنافسية؛ وثانيهما (القانونية) تعكس المخططات الاقتصادية على شكل تشريعات للسلطة النقدية، والأسواق المالية، والالتزامات الضريبية.
قبل كل شيء يجب أن ندرك معنى اندماج التخصص القانوني بالاقتصادي؛ فهو لا يعني أن يطغى الفكر المحاسبي والأرقام والبيانات المالية على فكر القانوني، ولا أن يطغى فكر التشريع والمدارس القانونية على فكر الاقتصادي؛ بل أن يكون خريج القانون مدركا لتفاصيل العلوم الاقتصادية من باب غاية واحدة؛ وهي كيفية صياغة التشريع الاقتصادي الأمثل، وليس بناء الهيكل الاقتصادي الفني.
بالمقابل، يكون اندماج التخصص الاقتصادي بالقانوني، حيث يكون خريج الاقتصاد قادرا على صياغة الإطار التشريعي لخطته الاقتصادية وفهم أبعاد النص القانوني وآثاره على نجاح الخطة؛ من باب غاية واحدة وهي كيفية ضبط الخطة وفق التزامات وجزاءات ضمن مشروع تنفيذي على أرض الواقع.
الرؤية المستقبلية لتخصص القانون والاقتصاد..
إذا أردنا أن نكون واقعيين، علينا القول بأن القانون هو تخصص نظري من حيث التفكير وعملي من حيث التنفيذ؛ فهو ليس بعلم نظري بحت، ولا تطبيقي بحت. لكن الطابع الغالب على طبيعة كليات القانون هو الطابع الأدبي، رغم أن التشريع يتعامل بشكل جوهري مع جميع مناحي الحياة ومنها العلمية.
فمثلا، قد يدرس خريج القانون مادة الاقتصاد السياسي حتى يفهم المدارس والمناهج الاقتصادية التي تسير الدولة بموجبها، لكن هذا الخريج سيعجز عن وضع علاج نقدي لأزمة مالية مثلا، فيكون دوره منحصرا بفهم الخطة العلاجية الموضوعة من الخبراء الاقتصاديين ثم صياغة هذه الخطة على شكل تشريعات، لذا نجد الكثير من تفاصيل الخطة غير مفهومة أو مصاغة بشكل مبالغ فيه إما بالصرامة أو بالتساهل. أما كليات الاقتصاد فنجدها مغرقة بالبحث الرقمي والبيانات، وتعطي الشيء القليل من الاهتمام للنظريات الاقتصادية التي ترسم المنهج التنظيمي للاقتصاد.
بناء عليه، يتخرج طالب الاقتصاد وهو قادر على حل أصعب المسائل المالية مغرقا بالتفاصيل الجزئية، دون أن يكون مطلعا على أبسط المبادئ القانونية، تلك المبادئ ذاتها التي يكون نجاح الخطة الاقتصادية رهن بتطبيقها. فمثلا، قد يدرس خريج الاقتصاد مادة القانون التجاري فقط حتى يفهم بعض الأمور المحاسبية والمالية، لكن إذا وضعنا أمامه المنهج الاقتصادي للدولة وطلبنا منه صياغة تشريعات شاملة عنها، فإن عمله سيكون مليء بالثغرات والفراغ.
وهذا الفراغ التخصصي بين كليتي الاقتصاد والقانون هو السبب في وجود الثغرات القانونية التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى خلل بالمنظومة المالية أو حتى إلى فتح فرص غير مشروعة للفساد.
فمثلا، إذا كانت الخطة الاقتصادية بالدولة تسعى تحقيق نسبة نمو معينة بالاقتصاد الوطني مع زيادة العبء الضريبي بنسبة معينة موازية لنسبة النمو، فهنا إذا كانت التشريعات الضريبية مليئة بالثغرات؛ فلن تحصل الخزينة العامة على الموارد المطلوبة لأن التهرب الضريبي سينتشر بفعل ضعف الهيكل التشريعي.
لذا، يبدو لي ضرورة التفكير في طرح تخصصات قانونية نوعية مرتبطة بـ “القانون والاقتصاد”، بحيث يجمع الخريج بين العلم الأدبي والفكري الخاص بالقانون، وبين التطبيق العلمي الرقمي الخاص بالاقتصاد. وهكذا، يكون لدينا كوادر قادرة على رسم السياسة الاقتصادية بما يشمل التخطيط الاقتصادي المتخصص والقواعد التشريعية الملزمة. تلك الكوادر هي التي تحتاجها الدولة فعلا لدى تنفيذ خططها التنموية الاقتصادية بعيدة المدى، فالتخطيط الاستراتيجي يحتاج إلى رؤية بعين الالتزام والقواعد، وبعين التخصص المالي والنقدي في آن معا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال