الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الجيوسياسة (Geopolitics) هي العدسة الأساس التي تنظر من خلالها الدول لنفوذها في العالم، وتستخدم فيها أدواتها مثل القوة العسكرية والتحالفات السياسية، إلى أن ظهرت عدسة جديدة لتعيد صياغة المفاهيم التقليدية للنفوذ الدولي، وهي الجيواقتصاد (Geoeconomics)، ويبدو من خطابات “دونالد ترمب” – أثناء جولات المنافسة الرئاسية – بأن رؤيته تجاه العالم ستكون من خلال هذه العدسة لتغيير قواعد اللعبة الدولية.
مصطلح الجيواقتصاد – الذي قدمه الباحث الاقتصادي الأمريكي “إدوارد لوتواك” عام 1990 – هو تفاعل الجغرافيا والاقتصاد في صياغة العلاقات الدولية، بحيث يتم توظيف التجارة والاستثمارات والضرائب والرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية كأدوات لتحقيق أهداف الهيمنة الاستراتيجية، بمعنى تسخير القوة الاقتصادية لتحقيق النفوذ السياسي، فعلى سبيل المثال، يمكن لدولة أن تستغل الاستثمارات في البنية التحتية لتعزيز وجودها في دولة أو منطقة معينة، كما تفعل الصين عبر مبادرة الحزام والطريق.
عُرف عن “ترمب” أثناء رئاسته الأولى، قدرته على قلب الموازين، كمحاولة لتحويل الولايات المتحدة من لاعب بالقوة السياسية والعسكرية لتحقيق الهيمنة العالمية إلى لاعب يستخدم الاقتصاد كوسيلة رئيسية لذات الغرض، لكن دولًا أخرى – وإن كانت محدودة العدد، سواء كانت منافسة أو حليفة – بدأت هي الأخرى تبني وتجهز أدواتها الجيواقتصادية لمواجهة النفوذ المهيمن الأمريكي، والذي لم يعد كونه احتمال مستقبلي ولكن حتمية تنتظر وقتها.
تحدث “ترمب” عن هذه الحتمية بكل صراحة، خاصة في الأيام الأخيرة الماضية التي تسبق دخوله مكتبه البيضاوي في 20 يناير المقبل، فقد كانت تصريحاته – مع تبنى شعارات “أمريكا أولاً” و “جعل أمريكا عظيمة” – تشير بلا أدنى شك بأن الاقتصاد هو الساحة الجديدة للصراع الدولي، فمع تزايد نفوذ مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا)، وخاصة مساعيها لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، اعتبر “ترمب” هذه التوجهات تهديدًا مباشرًا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
لم تقتصر تهديداته على منافسي الولايات المتحدة المباشرين، بل طالت أيضًا الاتحاد الأوروبي، الذي وصفه بأنه منافس تجاري يسعى لاستغلال الأسواق الأمريكية، وحتى كندا والمكسيك لم يسلما من تهديدات “ترمب” مما جعل رئيس الوزراء الكندي “ترودو” يستقل طائرته ويتجه للولايات المتحدة لمقابلة “ترمب”، ولا شك في أن الحرب التجارية مع الصين قد أخذت المساحة الأوسع في أحاديثه، حيث سيفرض “ترامب” رسومًا جمركية ضخمة على الواردات الصينية، في محاولة لوقف اختلال الميزان التجاري، ومسألة الطاقة والتي غلفها بشعار “احفر يا حبيبي.. احفر” بغية تخفيض الأسعار التي يمكن أن تتسبب في مشاكل لا تحمد عقباها لاحقا في أسواق النفط والغاز.
لا شك في أن التحديات عسيرة أمام الولايات المتحدة، فهناك احتمالية تآكل النفوذ الأمريكي المالي إذا نجحت مجموعة البريكس في تحجيم الاعتماد على الدولار الأمريكي، أو الاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى بناء استقلالية اقتصادية عن الولايات المتحدة عبر تعزيز استخدام اليورو في التجارة الدولية، وأيضا المنافسة في الطاقة الذي سيؤدي إلى تعاطي اللاعبين الأقوياء مع الأسواق بجدية صارمة، ولا شك في أن التفوق التكنولوجي سيكون له دوره الحيوي إذا تمكنت الصين أو دول أخرى من تحقيق التفوق في مجالات التكنولوجيا المستقبلية، أو على الأقل محاكاة التقدم التكنولوجي الأمريكي، ومثل هذه المجالات وغيرها كفيلة بإضعاف نفوذ الاقتصاد الأمريكي عالميًا، مما يؤرق فكر الإدارة الأمريكية الجديدة.
إلا أن في عالم أصبح الاقتصاد فيه الساحة الرئيسية للصراع، ستكون فرضية أن دولة واحدة قادرة على احتكار أدوات الجيواقتصاد ضعيفة، فالولايات المتحدة – سواء بقيادة “ترمب” أو غيره – ستسعى لتعزيز نفوذها باستخدام هذه الأدوات، إلا أن دولا أخرى لديها هي الأخرى أدواتها الجيواقتصادية لمواجهة الهيمنة الاستفرادية.
ويبقى السؤال هنا وفي ظل هذا السباق المحموم بين القوى الاقتصادية العالمية: هل سينجح “ترمب” في تشكيل النظام العالمي بقواعد مختلفة والحفاظ على صدارة منفردة للولايات المتحدة مستقبلا، أم أن تحديه للعالم سيواجه باستجابة مضادة من القوى الكبرى التقليدية، وربما قوى جديدة لم تكن في حسبانه؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال